من أين يأتي كل هؤلاء السوريين؟
د. بشير موسى نافع
نعم، من أين يأتي كل هؤلاء السوريين؟ كيف خرجوا بهذا الحجم وهذه الشجاعة، غير المسبوقة لأي شعب، في كل هذه المدن والبلدات والقرى. الذين ظنوا أنهم عرفوا سورية والسوريين فوجئوا بأسماء هذه البلدات والقرى، بلدات وقرى حمص وحماة واللاذقية ودير الزور وريف دمشق ودرعا.
في هذا البلد من الهلال العربي الخصيب، حيث استقر الإنسان قبل أن يستقر في أية بقعة أخرى من العالم، وحيث شيد الإنسان أولى المدن؛ في هذا البلد الذي يضم أقدم مدن معمورة بالحياة بلا انقطاع منذ آلاف السنين؛ في هذا البلد من الهلال العربي الخصيب، حيث عرفت الإنسانية أحرف الكتابة وسنت الشرائع للمرة الأولى؛ في هذا البلد الذي يختزن موروثه وثقافته حضارات العالم الكبرى ومعتقداته، من آشور إلى بيزنطة إلى فضاء الإسلام الفسيح؛ في هذا البلد الذي تقف على أرضه أقدم كنيسة على الإطلاق وأول مسجد جامع خارج مدينة رسول الله؛ في هذا البلد حيث ولدت الفكرة العربية وحملت راية الإصلاح الإسلامي الحديث، وحيث وقف العرب وقفتهم الأولى في مواجهة الغزو الإمبريالي الحديث للمشرق، وثاروا في واحدة من أكبر ثوراتهم بعد سنوات قليلة فقط من الاحتلال الأجنبي؛ في هذا البلد الذي قالت إذاعة عاصمته يوم أن صمتت الإذاعة المصرية في أول أيام العدوان الثلاثي على مصر: ‘هنا القاهرة’؛ في هذا البلد الذي تنحى رئيسه يوماً عن الحكم من أجل إنجاز أول وحدة عربية في حقبة ما بعد الاستعمار المباشر؛ في هذا البلد الذي احتضن شعبه قضايا العرب جميعاً، وقدم الفوج وراء الآخر من الشهداء للدفاع عن حقوق العرب ومصالحهم؛ في هذا البلد يخرج السوريون اليوم كما لم يخرج شعب آخر للمطالبة بحريته وكرامته، ولوضع نهاية للاستبداد، مرة وإلى الأبد.
قدمت سورية في جمعة الحرية، جمعة آذادي، كما أطلق عليها ناشطو الثورة السورية، فوجاً آخر من الشهداء، أكثر من أربعين شهيداً في نصف نهار واحد. وفي اليوم التالي، قدم مشيعو فوج اليوم السابق فوجاً جديداً من الشهداء. في جمعة الحرية والأيام التي تلتها من هذا الأسبوع، لا تكاد توجد بقعة من الأرض السورية لم تشهد تظاهرة احتجاج. في المدن التي احتلتها قوات الأمن والجيش الخاصة، كما في درعا، لجأ السوريون إلى البلدات المجاورة للتعبير عن تصميمهم على مواصلة الحركة الشعبية. في المدن التي تراجعت عنها قوات الأمن والجيش قليلاً، كما في بانياس، عادت الحركة الشعبية أقوى وأبلغ تعبيراً عن أية جمعة سابقة.
خرج السوريون في الرستن وتلبيسة وجسر الشغور وإدلب، في القامشلي وعامودا والبوكمال، في دير الزور والسويداء، في ميدان سيف الدولة والمدينة الجامعية بحلب، في ركن الدين وباب السريجة والميدان بدمشق، في سقبا والمعضمية والحجر الأسود وداريا، وفي أحياء اللاذقية وحمص وحماة. الذين اشتكوا من، أو ادعوا، خلال الأسابيع الماضية أن حلب لم تقرر الالتحاق بركب الحركة الشعبية بعد، أو أن دمشق، حيث انطلقت أولى تظاهرات الثورة السورية في منتصف آذار/مارس الماضي، ليست على استعداد بعد للمواجهة مع النظام وآلته الأمنية والعسكرية، ليس لهم أن يشتكوا أو أن يدعوا بعد الآن. ليس ثمة موقع في سورية الآن إلا وشهد على القطيعة بين النظام وشعبه، في مظاهرات حاشدة أحياناً، وفي أخرى أقل حشداً في أحيان أخرى، في الأماكن ذات الوجود الأمني غير ثقيل الوطأة وفي الأماكن حيث الوجود الأمني أثقل وطأة. ولكن الإجماع السوري الشعبي على أن لا مستقبل لهذا النظام لم يعد من الممكن إغفاله.
خلال الأسابيع القليلة الماضية، واجه النظام الشعب السوري ليس بقوات الأمن ووحدات الجيش الموالية وحسب، بل وبتقديم سرديته الخاصة للحركة الشعبية أيضاً، سردية تسويغ القمع وسياسة القتل المباشر. وهنا كان الخطر الذي تتعرض له حركة الشعب السورية أكبر تهديداً حتى من وقع القتل نفسه ومن الاعتقال والتدمير. لا يكاد يوجد نظام حكم حديث في العالم بأسره وإلا يبذل ما يستطيع من الجهد والدهاء لتوحيد أكبر كتلة من شعبه وراءه. في سورية، بذل النظام جهوداً حثيثة منذ انطلاق الحركة الشعبية ليقسم السوريين طائفياً وإثنياً. في البداية، حاول رشوة الأكراد السوريين بمنح الجنسية السورية لمئات الآلاف ممن حجبت عنهم جنسية بلادهم وحقوقهم الوطنية منذ عقود، وأصدرت الأوامر للأجهزة الأمنية لتجنب إسقاط ضحايا من الأكراد.
وفي المرحلة التالية، وما أن امتدت رياح الحركة الشعبية إلى مناطق سورية واسعة، حتى لجأ النظام إلى الخطاب الطائفي، متهماً المتظاهرين بتهديد المسيحيين والدروز والعلويين من السوريين. كان هدف النظام وما يزال، الإيحاء بأن سورية لا تشهد ثورة شعبية وطنية مثل تلك التي شهدتها تونس ومصر وليبيا واليمن، وأن من يخطط للمظاهرات ويقودها ليس إلا مجموعات من المسلمين السنة المتشددين. ولأن الموجة السائدة لاتهام الإسلام السني منذ أحداث الحادي عشر من ايلول/سبتمبر محمولة على خطاب نمطي يدين السلفية ويحملها كل الشرور، فلابد أن يكون المتظاهرون السوريون من السلفيين، الذين يسعون إلى إقامة إمارات إسلامية في قرى درعا وبعض أحياء بانياس؛ والسلفيون ليسوا إلا قتلة طائفيين، يهددون وجود المسيحيين والعلويين والدروز وغيرهم.
ما تستهدفه الأقلية الحاكمة في دمشق، وهي ترى الأغلبية السورية ترفع صوتها من أجل الحرية والكرامة، أن تحتمي بالعصبية الطائفية، أن تستدعي الأقليات الإثنية مرة والأقليات الطائفية مرة أخرى للاصطفاف حولها ومواجهة الأكثرية الثائرة، وتأمين سيطرتها هي وتحكمها من جديد. ولكن الصلابة الأخلاقية للشعب السورية أوقعت الهزيمة بخطاب النظام ومخططاته، وكشفت هشاشة سرديته. لم يترد الأكراد السوريون في الالتحاق بأشقائهم العرب، بل وتراجعت مطالبهم الفئوية من أجل التوكيد على المطالب الوطنية. وفي كافة أنحاء سورية، خرجت القرى والبلدات ذات الأكثرية المسيحية، كما خرجت مدن الأغلبية المسلمة والدرزية. ظل المعارضون السوريون من خلفيات علوية على مواقفهم بالرغم من التهديدات التي وجهت إلى حياتهم وأسرهم، وامتنع ضباط وجنود عليون، كما رفاقهم من السنة، عن إطلاق النار على مواطنيهم، بكل ما يحمله هذا القرار من خطر على الحياة.
وكلما ارتفع عدد ضحايا حملة القمع الأمني والعسكري التي أطلقها النظام ضد شعبه، كلما ارتفع صوت الناطقين باسم النظام ومناصريه بادعاءات الخطر الإرهابي الذي يهدد أمن سورية، وأن قوات الأمن تواجه اختراقاً مسلحاً تدعمه دول وجهات أجنبية، وأن ضحايا الجيش وأجهزة الأمن في المواجهات مع المسلحين تفوق المئة.
لم يقل النظام مطلقاً للعالم أو للشعب السوري كيف اخترقت كل هذه العصابات المسلحة أنحاء سورية المختلفة، وأين كانت أشد مؤسسات الأمن في المجال العربي تحكماً وهذه العصابات تنتشر من إدلب إلى درعا ومن القامشلي إلى بنانياس؛ وبخلاف اتهامات ساذجة ومضحكة لنائب لبناني بالوقوف خلف الثورة المسلحة الموهومة، لم يحاول النظام مطلقاً تسمية دولة واحدة من الدول التي ادعى توفيرها الدعم لهؤلاء المسلحين.
ومرة أخرى، تسلح الشعب السوري بصلابته الأخلاقية ووعيه بشروط المواجهة مع النظام وأجهزته. لم يحمل سوري واحد السلاح، بالرغم من أن بيوت السوريين لا تخلو من الأسلحة، وظل العالم، يوماً بعد يوم، وإسبوعاً وراء الآخر، لا يشهد إلا مواطنين عزل، يرفعون شعارات سلمية ووطنية حركة الاحتجاج، يقتلون على أيدي قوات النظام. يخرج السوريون إلى التظاهرات بأطفالهم وأبنائهم، وأحياناً بنسائهم أيضاً. ويقتل السوريون عزلاً بسلاح قوات النظام، رجالاً وأطفالاً ونساءً.
خلال أسابيع قليلة من اندلاع الحركة الشعبية السورية لم يعد هناك من يستمع لادعاءات النظام، ناهيك عن أخذها مأخذ الصدق. وإن كان للشعب السوري أن يعتز بإنجازاته في هذه الفترة القصيرة من نضاله الشجاع من أجل الحرية والكرامة، فليس ثمة شك أن إسقاط سردية النظام وكشف هشاشة خطابه وادعاءاته تقف على رأس هذه الإنجازات. لم يعد ثمة من يصدق بأن الآلاف التي خرجت في جمعة الحرية تنتمي، بأي حال من الاحوال، لقوى راديكالية مندسة، سلفية أو غير سلفية، ولا أن هذه الجموع مدفوعة من الخارج، ولا أنها طائفية التوجه، أو مسلحة. ويأتي هذا الإنجاز في موازاة إسقاط الشعب السوري لـ ‘خيار حماة’ وأوهام النظام في أن تستطيع أجهزة أمنه والقوات العسكرية الموالية له إخماد حركة الشعب بالقوة المسلحة، وبتعليم الشعب السوري درساً يماثل درس حماة قبل ثلاثة عقود. كلما سقط شهيد، سقط حجر آخر في رواية النظام واستراتجية مغالبة الشعب التي يتبعها، وبكل هؤلاء الشهداء لم يعد ثمة من مصداقية لأي من مقولات الأقلية الحاكمة ولا من أمل لها في إخماد حركة الشعب. واليوم، بتقويض مصداقية النظام وإيقاع الهزيمة بسياسة الموت والدمار التي تبناها، تقترب ساعة خلاص سورية كما لم تقترب من قبل.
‘ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
القدس العربي