من هوامش اللجوء البؤس العاري/ تهامة الجندي
“تحطمنا الأيام حتى كأننا/ زجاج لا يعاد له سبك” وبيت المتنبي يصف حال معظم السوريين بعد ثورتهم، حطام منثور في أصقاع الأرض، صنعته أيادي الطغاة، وأولئك الذين يتعاطفون معك في أول الدرب، ينفرون بعد حين، أيها العبء الثقيل على نفسك، قبل الآخرين… تظن الجلوس على موائد الغرباء، يفتح أبواب الحياة الجديدة…؟! ثم تدرك في قرارة نفسك انها حياة الفتات، وشيئا فشيئا تعتاد ابتلاع إهانة المحّسنين بصمت، حتى لا تكسب عداوة أحدهم، وتخّسر قليلك، وتحمد الله أنك لا تزال قادرا على الحركة وتأمين كفاف يومك، لا تفترش الأرض مثل الكثيرين، وتشّحذ اللقمة.
قبل ذاك، كنت سمعت الكثير عن قصص اللجوء، والتقيت بالكثير من اللاجئين في كل بلد زرتها، أبي نفسه كان معارضا لاجئا في ألمانيا ثم تونس، وتوفي في غزة، وفي بلدي كان يعيش ما يقرب مليوني لاجئ، أغلبهم فلسطينيين وعراقيين ومن الجولان المحتل، لكني لم أفكر في يوم من الأيام أني سأصبح في عداد اللاجئين، وأن أغلب النازحين السوريين في بلدهم، وفي دول الجوار، سوف يشكّلون حالة فريدة من البؤس الخالص، ركام بشري متروك في العراء لمصيره المجهول، لا يدفع الآخرين إلى مد يد العون، بقدر ما يثير لديهم مشاعر الخوف والحنّق، فإطعام هؤلاء وتأمينهم ليس من مهام الأفراد، بل هي مسؤولية الدول الموقّعة على ميثاق حقوق الإنسان.
لبنان قِبّلة اللاجئين منذ مذابح الأرمن أوائل القرن العشرين، فالفلسطينيين في منتصفه، ثم العراقيين، إلى السوريين قبل ثلاثة أعوام، يفرون من الحرب إليه أفرادا وجماعات، يعبرون حدوده بشكل شرعي أو متسلّلين، نصفهم معارض، والنصف الآخر من الموالين، منهم التاجر والميسور، ومنهم المتعلّم المؤهّل بالخبرة العملية والذكاء، وبعضهم من النخب المثقفة ومن الفنانين، وعلى الأرجح هؤلاء يحالفهم الحظ في إيجاد فرصة عمل، أو فتح مشروع صغير، وترتيب أمورهم المعيشية بمساعدة معارفهم أو أقاربهم من اللبنانين. لكن معظم النازحين بلا كفاءات: أطفال وقاصرات وأميّات، معوّقون ومسنّون، صغار كسبة انهارت مصالحهم، سكان أرياف احترقت أراضيهم ومواشيهم… يجولون في الطرقات، أفضلهم حالا يمسح الأحذية، ويبيع الورود، واغلبهم من الشحّاذين، أقصى أحلامهم، أن تضع في أكفّهم المتضرّعة قطعة نقود، وما من أحد يسأل، أين فرص هؤلاء بالنجاة…؟!
حين أقطع شارع الحمرا ببيروت، أشعر أني امام معرض لكل أصناف السوريين، ويبدو لي أن عددهم يفوق عدد اللبنانين، أراهم أشبه بلوحات تشكيلية، تارة بألوان زاهية ولمسة طرية، وأخرى قاسية مثل الرصاص، ولا تفارق مخيلتي لوحة الدمعة لرامبرانت. ألتقط أنفاسي في المقهى، يأتيني السوريون الشّحاذون تباعا، أعطي الأول، أتجاهل الآخرين، ويخرقني الألم… بعدها أغرق بالقلق والتفكير، كيف أحمي نفسي من الوقوع في مأساة الفاقة أو المرض؟ وأنا صحفية، لاسند لي، في سن اليأس، ومجتمع البيارتة لا يفتح أبوابه إلا للمظهر الثري الجميل.
أحببت لبنان أكثر من أي بلد زرته، أحببته ربما أكثر من بلدي، عشقت بيروت منذ اللحظة الأولى، فتنني بحرها، سحرتني طبيعتها ومبانيها ومقاهي الرصيف، وطاب لي نمط الحياة، عاصمة صغيرة، عريقة، دافئة، صُممت على مزاجي، فيها تعرفّت على ألطف وأنبل خلق الله، وفيها أحيا وأكتب على هواي، لكني لا أشعر بالأمان. مدخراتي المتواضعة على وشك النضوب، وما أكسبه من عملي، أقل بكثير من تغطية نفقات عيشي: السكن والمأكل والملبس والطبابة. والموالون للنظام السوري كثيرون، ويتمتعون بالنفوذ والصلاحيات… غريب قدري، كيف تصير هناءتي كابوسا برمشة عين…؟!
فكرت طويلا، ترددّت كثيرا، وأجلّت الموضوع لأكثر من ستة شهور، قبل أن أعزم النية، وأسّتقل سيارة الأجرة إلى مكتب “مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين”، وقبلها كنت قرأت على صفحات النت، جميع المعلومات الشحيحة المتوفرة بالعربية حول قضايا اللجوء، لم تتضح لي الصورة تماما، لكن على الأرجح أنه بموجب اتفاقية جينيف لعام 1951، يحق لكل شخص أن يطلب اللجوء، إذا كان لا يتمتع بحماية بلده الأصلي، ويعيش خارج حدوده، إثر تعرضه للاضطهاد والمطاردة نتيجة انتمائه السياسي أو الديني أو القومي، أو إثر مصادرة حقوقه المدنية وحرياته الشخصية، أو بسبب ظروف قاهرة، ليس له قدرة على ردّها: كارثة طبيعية، مرض عضال أو حرب، وعلى أساس هذا الحق يُمنح اللاجئ الإقامة في بلد آخر، يكفل له الحماية والرعاية على كافة المستويات.
العديد من الشروط ينطبق على وضعي، واللجوء الإنساني بدا لي الحل المثالي، سيما أن الأمور في بلدي، تزداد تدهورا وسوءا يوما إثر يوم، ولا توحي بأي انفراج في المدى المنظور، وذهبت إلى مفوضية اللاجئين، أطالب بحقي في الحماية والرعاية، واتكأ أيضا على جميع حقوقي المنصوص عليها في اتفاقية “إلغاء كل أشكال التمييز ضد المرأة”، ذهبت ولا أملك أدنى فكرة عن كيفية التسجيل وتقديم الطلب، أو شكل المكان الذي أقصده، ولا أدري لما تخيلته فسيحا، مزودا بكل وسائل الراحة، وأني فور وصولي سوف أنال منه المرام، ربما لأنه يتبع هيئة الأمم المتحدة.
وصلت، باب حديدي كبير، يحرسه اثنين من قوات حفظ النظام، فتش حقيبتي العنصر المسؤول عن النساء، وسمح لي بالدخول… مساحة مغطاة بالرمال الأرجوانية، مسيّجة بسور اسمنتي عال، تحدّه غرف ضيقة بكوّات صغيرة، يجلس خلفها الموظفون، وأمامهم تصتف طوابير البشر، حيز صغير للعب الأطفال، وفي الوسط مظلتان واسعتان من القماش المشمّع، وعدد كبير من الكراسي البلاستيكية، لكنها لا تكفي نصف الوافدين، ولا يوجد حمامات، أو أية زاوية لبيع المشروبات أو الماء على الأقل، مع أن أقصر زيارة إلى هذا المكان، قد تستغرق نصف النهار.
سرّتُ هنا وهناك، أسّبر المكان، غاصت قدماي بالرمال، الجو حار، وعرقي يتصبّب، وكلما هبت نسائم الصيف، أحسست بالغبار يملأ عيناي، ويلتصق بشعري وملابسي. لا أدري ماذا أفعل، وأمام أية كوّة أصفّ؟ ليس ثمة إرشادات مكتوبة أو مرشدين. على مقربة من الكوّة الأولى رجل مسنّ، يضع يده برفق على كتف شاب من الموظفين، ويقول بصوت خفيض “جاوبني يا ابني” وقبل أن يكمل جملته، يصرخ الشاب كمن يعاني من رهاب اللمس: لا تضع يدك عليّ، لا تسألني، لا تقترب مني، ابتعدوا عني، لا أعرف شيئا… نظرت باستغراب شديد، وقلت في سري: أعوذ بالله من هذه الفاتحة.
أحد السوريين رآني حائرة ومحّبطة، شرح لي خطوات التسجيل، أصفّ على الكوّة الأولى، وآخذ استمارة الرقم، أملأها باسمي وعنواني وغايتي من التسجيل، ثم أنتظر على كوّة أخرى لتحديد موعد النظر في طلبي وأسبابي، كنت الرقم 397 في طابور يزيد على الخمسمئة شخص، أتوا في ذاك اليوم، لطلب المعونة والرعاية الصحية أو اللجوء… والوقت يمر ببطئ شديد.
اعتراني التعب، لا أستطيع الوقوف لمدة طويلة، ولم أعثر على مكان شاغر للجلوس، شعر بي أحدهم وتبرّع لي بكرسيه، جلست وسط الجموع، نازحون من كل المناطق السورية، والبؤس يطبع وجوههم، أغلب النساء شابات محجّبات، يمسكن بأطفالهن، وأحاديث خافتة عن منازل سقطت فوق رؤوس أصحابها، مصابين ومعوّقين وخارجين من المعّتقل، شعرت بالخجل، ماذا أفعل وسط هؤلاء المنكوبين؟ هم أحق مني بطلب الحماية والعون… الطفلة أمامي في حضن أمها، تبكي بحرقة، ربما عطشى أو جائعة، طفرت الدموع إلى عيناي، وحبستها مثل كل مرة.
جاء دور العشرة أشخاص الذين من بينهم رقمي، تجمّعنا أمام كوّة الموعد المنشود، قال شاب: “وقفوا بنظام”، وردّت الصبية بلهجتها الحمّصية: “كل شي إلا النظام، ما شفت شو عمل فينا؟” ضحكتُ رغما عني، وسرى شيء الألفة في صفنا، بعدها عدّتُ إلى الوجوم، حين سمعت من روائي امرأة تئن، لم يمضِ وقت كاف على عملية جراحية، أُجريت لها، كانت تضع يدها على جرحها الطري، وتقف في الدور، قلت لها: “خذي مكاني”، قالت: “مالفرق، كلنا عم نتوجّع”. سألني الموظف: إن كان لي أقارب في لبنان؟ قلت نعم، سلمني أوراقي، استمارة البيانات، وموعد اللقاء بعد شهرين.
في الاستمارة يسألوني عن أسباب رحيلي عن سورية، وهي كثيرة، تبدأ من ما قبل الثورة، من كوني عشت حياتي غريبة في بلدي، بلا أدنى حقوق أو ضمانات، وتحت أعين المخّبرين، فقط لأني أنحدر من عائلة معارضة، ولأني صحفية مستقلة، لا أنتسب إلى حزب البعث، ولا أمجّد المسؤولين، لم أجد وظيفة لي في دوائر الدولة، بالرغم من شهادة الدكتوراه التي أحملها، على مدار خمسة عشر عاما، كنت أتابع الأنشطة الثقافية في دمشق، وأراسل الصحف والمجلات العربية، لم أوقّع عقد عمل مع أية جهة، ولم يكن لدي راتب ثابت، ولا ضمان صحي، وليس لي الحق في التعويض عن الخدمة أو راتب تقاعدي، وكان من السهل دوما سرقة تعبي، فليس لدي أي سلطة تحميني.
بديهي في مثل ظرفي، أن أبتهج، وأبدي تأييدي للثورة السورية منذ انطلاقتها، مع أني لم أكن من المتظاهرين أو النشطاء، غير أني مع تدهور الوضع الأمني وصعوبة التنقل، لم أعد قادرة على متابعة عملي كمراسلة صحفية، وفقدت مصدر رزقي الوحيد. اضطررت أن أغادر منزلي، الذي يقع على خطوط التماس بين منطقة النظام (مساكن الحرس الجمهوري) وبين منطقة الجيش الحر (قدسيا البلد)، غادرت المنزل الذي وضعت فيه شقاء عمري، هربا من المعارك التي تنشب بين الطرفين، وخوفا من أحداث الخطف والقتل والمداهمات الأمنية.
عامان، ومعظم أصدقائي ومعارفي وأقاربي باتوا في عداد القتلى والمعتقلين واللاجئين إلى دول الجوار، وكنت أرتعد أمام حواجز الأمن، ومن أخبار التعذيب والاغتصاب، أموت رعبا من صوت الطائرات والقذائف، حتى كدت أُصاب بالانهيار، وأكثر ما كان يثير ذعري وقلقي أن الأمور لا تسير باتجاه الدولة المدنية الديمقراطية، التي طالما حلمت بها، بقدر ما تسير باتجاه المزيد من التطرف والعنف، وقد لا أغلق مقلتاي على مشهد النصر، بل على كابوس الهزيمة، وأنا لم أشفَ بعد من فجائع الثمانينات ومجازر حماه.
قضيتي ليست سياسية، بل إنسانية بحتة، أيها المجتمع الدولي، شبعتُ من الموت والقهر ونوبات الكآبة، أطلب اللجوء إلى دولة تحميني، وتمنحني حقوقي كإنسانة وكاتبة، أرغب أن أمارس مهنتي، أعيش ما بقي لي، دونما خوف من تعسّف الحكام، أو تسلّط جماعة سلفية، تقيم الحدّ.
المستقبل