صفحات العالم

موجة القادة الشعبويّين

حازم صاغية

عرف “العالم الثالث” عديد الزعماء والقادة الذين اجتمعت فيهم جرعة فائضة من الشعبويّة إلى نوع متقدّم من العُظام يتاخم الجنون.

وبطبيعة الحال كان كلّ واحد من طرفي هذه المعادلة يعزّز الآخر. فنحن لا زلنا نذكر “إمبراطور” أفريقيا الوسطى الشهير بوكاسا والقائد الأوغنديّ الفذّ عيدي أمين كمجرّد اثنين من هؤلاء الذين ابتُليت بهم أفريقيا خصوصاً والعالم عموماً.

وفي السنتين الماضيتين رحل عن السلطة، أو عن عالمنا بأسره، معظم هؤلاء. فالليبيّ، صاحب “الجماهيريّة”، معمّر القذّافي، وهو أحد أبرزهم، سقط صريعاً على أيدي بعض الثائرين عليه، أمّا الفنزويلّي هوغو تشافيز فأودى به مرض السرطان، فيما يُفترض بالإيرانيّ محمود أحمدي نجاد أن يغادر قريباً رئاسة الجمهوريّة في إيران.

هل يمكن أن نرسم بروفيلاً إجماليّاً لهذا النمط من الزعماء الشعبويّين؟

كثيرون من هؤلاء وصلوا إلى السلطة عن طريق الانقلاب العسكريّ أو المؤامرة على اختلاف أشكالها، إلاّ أنّهم جميعاً، بمن فيهم الذين وصلوا عبر البرلمان، يكنّون احتقاراً عميقاً للعمليّة السياسيّة والدستوريّة، أي لإرادة الشعب من خلال أحزابه.

وهم، في صعودهم وفي عموم نشاطهم، إنّما يعكسون ضعف التقاليد السياسيّة في البلدان التي استولوا عليها. فلقد بات من شبه المستحيل، بعد انطواء ظاهرات هتلر وموسوليني، أن تظهر قيادات من الصنف هذا في بلدان الديموقراطيّة المستقرّة والتي توطّدت مؤسّساتها وأعرافها. ولئن ظهرت زعامات كاريزميّة أو رئاسيّة، كمثل الجنرال شارل ديغول في فرنسا أو مارغريت ثاتشر في بريطانيا، فإنّ هذه الزعامات ستعمل على نحو يتلاءم مع الديناميّات الديموقراطيّة والبرلمانيّة.

فوق هذا، إذا كانت المخاطبة العاطفيّة واللاعقلانيّة لـ “الشعب” جزءاً لا يتجزّأ من فهم القيادات الشعبويّة للسياسة ومن ممارستهم لها، فإنّ الخصومة مع الغرب، ولا سيّما الولايات المتّحدة الأميركيّة، تبقى ثابتاً من ثوابتهم. فهنا تحديداً يصار إلى تكريس “العدوّ المصيريّ” ليكون الشرط الشارط لبلورة الزعامة الوطنيّة والشعبيّة. وقد وصل أمر كهذا بالزعيم الزيمبابويّ روبرت موغابي، مثلاً، إلى حدّ اتّهام بريطانيا بنشر المثليّة الجنسيّة وبثّ مرض الإيدز في بلده.

فضلاً عن ذلك، فإنّ سياسات هؤلاء لا تقاس بالانجازات الملموسة في الاقتصاد أو التعليم أو الطبابة، بل تقاس أساساً بالهدير الإيديولوجيّ والخطابيّ صموداً وتصدّياً و”رفعاً للرأس” وذوداً عن “الكرامة”. وبالقياس نفسه، فإنّ الفساد الذي يرعونه فيما هم في السلطة لا يتعرّض إلى المساءلة، ولا حتّى إلى الإشارة العابرة ما داموا على قيد الحياة. فهذه الأمور “النسبيّة”، بل التافهة، لا يُحسب لها حساب بقياس الإنجازات التاريخيّة المزعومة.

لكنّ هذه المواصفات تجد ما يتمّمها في تحويل العالم بأسره إلى مسرح مونولوغيّ. فالزعيم الذي من هذا الصنف غير معنيّ، حين يتحدّث، بمعيار التمييز بين المعقول وغير المعقول، بين الصحيح والخاطىء. إنّه يقول ما طاب له أن يقوله، على ما كنّا نرى ونسمع في ترّهات معمّر القذّافي الكثيرة أو في السهرات التي يعقدها أحمدي نجاد مع الأنبياء والرسل أو إنكاره المتكرّر للمحرقة النازيّة.

والزعيم هذا حين يتصرّف، لا يفكّر لوهلة بوجود قانون دوليّ قد يحاسبه على تصرّفاته، أو حتّى بتوازنات قوى قد تحدّ من قدرته على القيام بما ينوي القيام به، كشنّ الحروب أو دعم الإرهاب. لكنْ فقط حين يُخاطَب هذا الزعيم بشكل مباشر ويبدو أنّ ثمّة استعداداً واضحاً لإنزال العقاب به نراه يتراجع عن مواقف وسياسات سابقة. هكذا مثلاً، وبعد 11 أيلول (سبتمبر) حين بدا أنّ الولايات المتّحدة ماضية في تعقّب اسلحة الدمار الشامل، قدّم معمّر القذّافي “استسلامه الاستباقيّ” فسلّم ترسانته من تلك الأسلحة.

وهذا، في آخر المطاف، سلوك طفليّ مميّز، حيث يحلّ العقاب المباشر أو التهديد به محلّ المسؤوليّة والحسابات وكلّ اعتبار آخر.

لقد تراجع عدد هذا الصنف من القيادات بعد نهاية الحرب الباردة. ذاك أنّ الاستفادة من التوازن بين الجبّارين الأميركيّ والسوفياتيّ كانت تتيح هامشاً أوسع من الحضور والتأثير.

ويوماً بعد يوم يتراجع عددهم كما يتراجع تأثيرهم. ففي أميركا اللاتينيّة مثلاً، وهي تاريخيّاً من أبرز مهود الشعبويّة، بدأت تحلّ على جبهة اليسار قيادات اشتراكيّة ديموقراطيّة هادئة محلّ الزعامات الكاسترويّة والتشافيزيّة المتوتّرة والصاخبة. بيد أنّ ذلك لا يعني أنّ الصفحة انطوت، لا سيّما في البلدان التي يشكّل فيها الزعيم العُصابيّ واجهة لنظام عُصابيّ. وهذه حال إيران مثلاً، إذ من المؤكّد أنّ تقاعد أحمدي نجاد لن يدافع إلى تقاعد النظام الذي أنجبه، والذي يملك القدرة، في أيّة لحظة، على إنجاب نجاد آخر.

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى