مِن مفارقات التراجيديا السورية/ زياد ماجد
كتب كثيرون من الزملاء تعليقاتٍ في وسائل التواصل الاجتماعي على فرحة معارضين سوريّين مدنيّين بسقوط أكبر قاعدتين لنظام الأسد في وادي الضيف والحمدانية في ريف إدلب في قبضة «جبهة النصرة» و «حركة أحرار الشام». وتفاوتت المواقف بين الترحيب بفرحة المعارضين المعنيّين أو تفهّم أسبابها، واستنكارها أو التحذير من مؤدّيات استبدال استبدادٍ بآخر، نظراً الى تجارب سابقة في محافظة الرقّة حيث انتهت السيطرة بعد انكفاء النظام الى «النصرة» ثم «داعش»، أو حتى في بعض المناطق الإدلبية المحرّرة نفسها حيث سعت «النصرة» الى إلغاء سواها من قوى عسكرية وسياسية.
وتشير الفرحة «المدنيّة» المذكورة، وتأييدها كما إدانتها أو التحذير منها، الى جوانب عدّة ممّا يمكن تسميته اليوم بالتراجيديا السورية. فمنذ عامين تقريباً، تعاظم نفوذ الجماعات الإسلامية المقاتلةِ النظامَ بالترافق مع ما أصاب الجيش الحرّ من وهنٍ سبّبه التمنّع الغربي عن تسليحه نوعياً وتعزيزه، وضعف قياداته وغياب التنسيق في ما بينها. وتحوّلت الجماعات الإسلامية منذ أواخر العام الفائت، مدعومة مادّياً من حكومات إقليمية وشبكات إسلامية غير حكومية، الى القوّة العسكرية الأولى على الأرض، ولو أنها لم تتوحّد جميعها في بوتقة واحدة. تزامن الأمر مع تدفّق الجهاديّين الى سورية، ثم إعلان العراقي أبي بكر البغدادي تأسيس «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (في نيسان/أبريل 2013)، وبدء قتاله وحدات الجيش الحرّ وبعض الجماعات الإسلامية السورية بهدف السيطرة على مناطق متاخمة للعراق تُيسّر حركة المقاتلين بين البلدين وتُوسّع نفوذه (تحضيراً لإعلانه الخلافة). كل ذلك في لحظةٍ تنامى فيها الخطاب المذهبي وتحوّل الى واحد من أبرز أسلحة الاستقطابِ وجذبِ المقاتلين الى سورية، بخاصة مع تعاظم الأدوار العسكرية لـ «حزب الله» والميليشيات الشيعية العراقية والأفغانية المقاتلة الى جانب الأسد.
هكذا تحوّلت «الجبهة الإسلامية» (بفصيليها الرئيسين، «أحرار الشام» و «جيش الإسلام») ثم «جبهة النصرة» ثم مجموعات متوسّطة الأحجام ذات مرجعيات إسلامية («جيش المجاهدين» و «حركة الزنكي» و «أجناد الشام») وكتائب صغيرة في شمال سورية وشرقها ووسطها وحول العاصمة دمشق، الى القوى ذات التأثير العسكري الأبرز في المعركة مع النظام من جهة، ومع «داعش» من جهة ثانية. أما القوى غير الإسلامية، فتراجع نفوذها في الشمال والوسط، واصطدم بعضها بـ «النصرة»، كما في الريف الإدلبي، لتنحصر رقعة انتشارها الجغرافي هناك، ويبقى حضورها الوازن متركّزاً في الجنوب.
بذلك، صار كل تقدّم عسكري في وجه النظام، يعني تقدّم القوى الإسلامية المُشار إليها (وفي حالة مطار الطبقة أو في ما قد يجري في مطار دير الزور، يعني الأمر تقدّماً لـ «داعش»)، في حين أن كلّ تقدّم للنظام على أي جبهة يعني تراجعاً للثورة السورية وللمعارضة، وليس للمقاتلين الإسلاميّين وحدهم.
والمفارقة العسكرية المذكورة تراجيدية، لأنها تبدو إلزامية ولأن المعركة لا تسمح لغيرها بالبروز. والمدنيّون السوريّون المقيمون في مناطق حدوثها يبدون شديدي الإدراك بمعطياتها. لذلك، لا يمكن استغراب ابتهاج أهالي ريف إدلب مثلاً بدحر قوّات النظام من معسكرَي وادي الضيف والحمدانية ومن الحواجز المحيطة بهما، حتى لو كانت على رأس الداحِرين «جبهة النصرة» إيّاها التي تظاهر بعضهم ضد ممارساتها الاستبدادية قبل ذلك بأيام، وحتى لو كانوا يعرفون أن الأمر سيقوّيها ويجعل التصدّي لممارساتها المشكو منها أصعب. لكن كيف لا يبتهجون وقد طُرد النظام من مواقع صبّت حمم مدفعيّتها عليهم وقتلت وجرحت وشرّدت منهم على مدى ثلاث سنوات عشرات الآلاف؟ وكيف يُحايدون وهم يدركون أن انتصار النظام الموضعي، ولَو على طرفٍ يخشونه ويُعانون من تسلّطه، كان ليعني انتصاره عليهم أيضاً؟ والمفارقة ذاتها نجدها، في مداها التراجيدي، في غوطتَي دمشق. إذ لا يمكن تخيّل أحدٍ من المطالبين بحرّية رزان زيتونة وسميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمّادي، أبرز وجوه الثورة السورية المدنية والمعارضين الجذريّين لنظام الأسد منذ سنوات طويلة (سرق الاعتقال بعضها في حالة سميرة الخليل)، يتردّد في الانحياز الى صمود جوبر ودوما في وجه هجمات قوات النظام وحلفائها، على رغم معرفته بارتباط الكثيرين من المقاتلين في جوبر ودوما بالفصيل المسؤول مباشرة أو تواطؤاً عن خطف رزان وسميرة ووائل وناظم…
كلّ هذا يُشير الى جوانب مأسوية من المعضلة السورية اليوم. ففي ظلّ استبعاد الحلّ السياسي في الأمد المنظور نتيجة استمرار روسيا وإيران بدعم الأسد، يبقى ما يجري على جبهات القتال (على رغم استحالة الحسم النهائي) الأكثر تأثيراً في المعادلة الراهنة، حيث كل إضعاف للأسد وإنهاك لحلفائه يفيد سياسياً، على رغم ما يحمله من أخطار تعزيز نفوذ بعض القوى التي تقاتله.
التراجيديا السورية إذاً كامنة في هذه المفارقة وما يبدو تلازماً بين جانبَيها. وانعدامُ الخيارات البديلة لم يعد مسؤوليةً سوريةً بمقدار ما صار، منذ عامين، مسؤوليةً دولية نتيجة محدودية الاكتراث الأميركي والعجز الأوروبي والحسابات الإقليمية الضيقة. ووسط كلّ ذلك، يظلّ نظام الأسد المسؤول الأوّل بلا منازع عمّا أصاب سورية وسيصيبها من ويلات. وكلّ تقدّم له أو تمديد لوجوده يعني المزيد من المصائب والمزيد من الأثمان التي ستُدفع لاحقاً، ولسنوات، بعد التخلّص منه…
* كاتب لبناني
الحياة