صفحات الرأي

نظرة إلى أبعاد تنامي دور روسيا السياسي في الشرق الأوسط

 

هل يشكل الشرق الأوسط حقا منطقة حيوية لموسكو أم يريد بوتين الاستفادة من الضعف الأميركي؟

نعم… الروس يبحثون الآن عن مناطق نفوذ لكن وفق استراتيجية خاصة بهم

د. طارق فهمي

هل تمثل منطقة الشرق الأوسط جزءا من الاستراتيجية الروسية أم لا؟ التطورات التي حدثت في المنطقة في الفترة الأخيرة تشير إلى أن منطقة الشرق الأوسط لم تكن حاضرة في السياسة الخارجية الروسية منذ قدوم الرئيس فلاديمير بوتين بفترة. لكنني أعتقد أنه الآن يريد أن يملأ الفراغ، ويحاول إثبات قدرة روسيا في مناطق الصراعات، بعدما كانت قد انسحبت من قضية السلام في منطقة الشرق الأوسط الخاصة بالصراع العربي الإسرائيلي، حيث لم يعد لروسيا، منذ سنين، أي دور في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية.

ومن المعروف أن الدور الواضح لروسيا في الفترة الأخيرة ينصب على الأزمة السورية، بعدما ظهر في قضايا أخرى، مثل أمن الخليج والعراق، وبالتالي أصبح الروس الآن يبحثون عن مكان نفوذ وفقا للاستراتيجية الخاصة بهم. وأعتقد أن الروس اليوم يريدون أن يطرحوا أنفسهم برؤى وتصورات جديدة، لكن تحليل مضمون الطرح الروسي يشير إلى أنهم لم يقدموا مبادرة، وإنما يتبنون سياسة رد الفعل ويرفعون شعارا دبلوماسيا شهيرا اسمه «راقب وانتظر» إلى حين تتضح الأحداث سواء في الأزمة السورية أو أمن الخليج أو في حروب الشرق الأوسط الرئيسة أو في التحولات التي شهدتها البلاد العربية.

ولم يكن للجانب الروسي أي دور في هذا سوى التعبير عن الحضور من دون أن يحمل مضمونا حقيقيا أو وجودا حقيقيا في قضايا منطقة الشرق الأوسط.

وهناك من يتساءل عما إذا كان الروس يمكن أن يسعوا للاستفادة من الضعف الأميركي.. وهذا صحيح. وفي الحقيقة من الممكن أن يتم توظيف الجانب الروسي، واستثمار الدور الروسي في المنطقة، لإحداث توازن في السياسة الخارجية الأميركية، تجاه المنطقة، إلى حد ما، أي ليس إلى الحد الذي قد يتصوره البعض.

لكنني أعتقد أنه من الممكن للجانب العربي محاولة استثمار وتوظيف الرغبة الروسية بالحضور في قضايا الشرق الأوسط من خلال استراتيجية عربية موحدة، ومن خلال إعادة قراءة التوجهات الروسية في النطاق الإقليمي. وأعتقد أن البداية ستكون في الحالة السورية ثم الحالة المصرية لاحقا، بصورة أو بأخرى.

روسيا يمكن أن تلقي بظلالها على المنطقة من خلال عدة آليات، ربما لن تقتصر على الجانب العسكري فقط. والحديث عن صفقة عسكرية أمر يشير إلى إمكانية أن يقدم الجانب الروسي أكثر من الدعم العسكري للعالم العربي، خاصة في الحالات المشتعلة مثل الحالة السورية والحالة المصرية. أعتقد أنه توجد آليات كثيرة للدعم الروسي في هذا الاتجاه لن تقتصر على الدعم العسكري فقط وإنما الدعم الاقتصادي والدعم المادي، أيضا بصورة أو بأخرى.

عودة الروس إلى منطقة الشرق الأوسط تتعلق بالقدرات والإمكانيات الخاصة بذلك. ورغم وجود إمكانيات للعودة، فإنه توجد ظروف تعوق ذلك، من بينها أن عودة الروس للمنطقة يمكن أن تواجه بإشكاليات حقيقية داخل روسيا نفسها، سواء من جانب المؤسسة العسكرية أو بعض الأحزاب التي لا ترغب في هذه العودة، بالإضافة إلى القيود الموجودة أصلا على الحركة الروسية في النطاق الدولي من داخل روسيا.

وبالتالي المشكلة ليست لها علاقة بنا نحن فقط في منطقة الشرق الأوسط، ولكن الأمر له ظروف خاصة داخل روسيا، حيث يدفع البعض في الداخل إلى عدم عودة روسيا لممارسة دور كوني أو دور على المستوى الدولي، وهؤلاء يقولون إن الاستقطاب الثنائي أو الثلاثي لم يعد يخدم أحدا.

على أي حال، هل الجانب الروسي لديه القدرة والإمكانية للعودة لمنطقة الشرق الأوسط؟ نعم، يمكن أن يلعب هذا الدور لكن إذا أراد، وإذا رغب في ذلك. وحتى هذه اللحظة لم تبلور روسيا موقفا يتضح منه بشكل جلي ما إذا كان لديها تصور استراتيجي متكامل للتعامل مع الأزمات العربية أم لا. ولم تطرح روسيا نفسها كبديل للسياسة الأميركية، ولم تواجه الولايات المتحدة في المحافل الدولية مثل الأمم المتحدة. هم، الروس، ينتظرون الموقف الأميركي بالأساس ليبنوا عليه تقديرهم. وبالتالي لا تتوقع أن يبادر الجانب الروسي ويباغت الجانب الأميركي في مواقف محددة.

وحتى الآن يبدو أن الجانب الروسي يحتاج إلى وقت لكي تقنعه بالحركة. أعني أنه ليس مطلق اليد، ولا يريد أن يدخل في مواجهة مع الجانب الأميركي في نهاية المطاف. يتساءل البعض: هل يمكن أن تستمر هذه السياسة الروسية في ظل رئاسة الرئيس الأميركي باراك أوباما، أم أنها يمكن أن تتغير في عدم وجوده؟

من المبكر طرح مثل هذا السؤال، لكن السياسة الروسية تتبع مبدأ النفعية وقراءة المصالح في هذا النطاق، وبالتالي يكون من المحتمل أن يتم تغيير هذا في مرحلة ما بعد أوباما. لكن لا ننسى أن هناك معوقات حقيقية داخل روسيا، مثل المؤسسة العسكرية وبعض الأحزاب المعارضة وغيرها، كما قلت، تتحفظ حتى الآن على عودة الجانب الروسي لممارسة دبلوماسية وسياسية على المستوى الدولي. هل من الممكن أن يتغيّر هذا في المرحلة المقبلة؟ نعم من الممكن. لكن هل سيرتبط الأمر بتغير الإدارة الأميركية الراهنة؟ لا أعتقد ذلك، لأن الإدارة الأميركية الحالية تدير المنظومة الدولية بحسابات ضيقة وفقا لمصالحها واتجاهاتها، لكن لا علاقة لها بالجانب الروسي.

* أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة ونائب رئيس المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط

هل يشكل الشرق الأوسط حقا منطقة حيوية لموسكو أم يريد بوتين الاستفادة من الضعف الأميركي؟

لا… موسكو حاولت في الماضي وفشلت وكل ما تفعله اليوم التلاعب بالتوتر الإقليمي

ريتشارد فايتز

لم تكف موسكو يوما، سواء في عهد حكومة الاتحاد السوفياتي السابق أو اتحادها الروسي الجديد، عن السعي إلى لعب دور محوري في الشرق الأوسط. وعدا عن مناسبات نادرة، أخفقت موسكو في تحقيق ذلك الطموح؛ فقد شهدت السنوات القليلة الماضية تهميش الدور الروسي في الربيع العربي والمفاوضات العربية – الإسرائيلية، وإن تجدد حاليا في المباحثات الروسية – الإيرانية. قد يكره المسؤولون الروس تهميش دورهم في الشرق الأوسط، لكنهم غير مستعدين لإنفاق مواردهم على المنطقة التي تحتل ذيل قائمة اهتماماتهم بعد أوروبا وآسيا، وتحديدا جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق.

لقد أوضح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عام 2004 صراحة أن «السياسة الروسية لا تدعم أيا من إسرائيل أو العرب.. وأنها لا تكترث سوى بتحقيق المصالح الروسية». وهذه المصالح يأتي من بينها تحقيق عائدات من خلال مبيعات السلاح، والنأي بموسكو عن السياسات الغربية التي لا يؤيدها الشعب الروسي، من دون محاولة إعادة دور روسيا كلاعب محوري في شؤون الشرق الأوسط، وهو ما لم تتمكن من تحقيقه بنجاح.

صانعو السياسة الروس يسعون عند صياغة سياساتهم تجاه الشرق الأوسط إلى تقييم مدى تأثير القرارات التي يتخذونها على مصالح موسكو في الأقاليم الأخرى. فلطالما ضحت روسيا بمصالح شركائها في مقابل أولويات أخرى، منها على سبيل المثال، إلغاء روسيا صفقة بيع أنظمة الدفاع الجوي المتطورة «إس 300» لإيران مقابل إنهاء إسرائيل تعاونها العسكري مع جورجيا. كذلك لم يُبد القادة الروس أي اهتمام بـ«الربيع العربي»؛ فقد كانت لهم علاقات جيدة مع كثير من القادة المستبدّين في العالم العربي. أما الآن، فيسعى المسؤولون الروس إلى بناء علاقات جيدة مع حلفائهم، ولكن، باستثناء الدعم الملحوظ للنظام السوري، لم تبذل موسكو جهدا واضحا للدفاع عن حلفائها أمام الثورات المحلية، فهاجم المسؤولون الروس دول الغرب لاستخدامها القوة المُفرطة في ليبيا، لكن معارضتهم لم تتجاوز التصريحات.

اهتمام روسيا المتواضع بالشأن الليبي كان واضحا في وجهات النظر المتباينة لزعيمي روسيا في ذلك الوقت، رئيس الوزراء فلاديمير بوتين والرئيس ديمتري ميدفيديف، حول كيفية الرد على التدخل الغربي في ليبيا. الأمر ذاته ينطبق على إيران، فالسياسة الروسية غالبا ما تتأثر ببعض جماعات المصالح، بما في ذلك جماعات الضغط النافذة في ميداني السلاح والطاقة.

أما الدور المفضل الذي تحب أن تلعبه روسيا في الشرق الأوسط فهو دور الوسيط الذي يستطيع، بعكس الحكومات الغربية، أن يتصل بجميع الأطراف. فلطالما برر الدبلوماسيون الروس احتفاظهم بعلاقات جيدة مع سوريا وإيران وحزب الله، وحتى حماس، بقولهم إن سياستهم تسمح للحكومات الغربية بأن يكون لها موطئ قدم في المفاوضات مع تلك الأطراف.

الروس يجدون في الواقع دور الوساطة مغريا، فهو يتيح لروسيا أن تضطلع بدور عالمي مؤثر من دون أن تبذل مجهودا في إيجاد أي حلول، خاصة أثناء المفاوضات. ثم إن دور الوساطة يمكّن روسيا من اتخاذ موقع جيد للتلاعب بالتوترات بين الأطراف المختلفة لصالح موسكو. ولقد دأبت روسيا على الحفاظ على دورها الرئيس في عملية السلام الإسرائيلية – الفلسطينية كعضو في اللجنة الرباعية الدولية. وهي تسعى حاليا لتعزيز دورها الدولي باستضافتها لمؤتمر حول السلام في الشرق الأوسط.

مع هذا، فشلت جهود الوساطة الروسية في منع وقوع حروب إسرائيل مع حماس وحزب الله. لكن، إجمالا، أظهر اللاعبون المحليون (الشرق أوسطيون) اهتماما ضعيفا في اللجوء إلى خدمات موسكو في الوساطة، إذ بذلوا مجهودا أكبر في التواصل مباشرة مع الولايات المتحدة وحلفائها.

على أي حال، انتهجت روسيا في عهد الرئيس الحالي فلاديمير بوتين أسلوب «السياسة الواقعية» تجاه الشرق الأوسط، وكافحت من أجل توطيد المصالح الروسية، بينما تجنبت في المقابل تبني الدبلوماسية «القائمة على القيمة» التي تنتهجها الحكومات الغربية. وهي ترى في السياسة الغربية دبلوماسية ذات معايير مزدوجة (تهاجم إيران ولا تهاجم إسرائيل) وسلبية المردود (بما أن المساومة على القيم أمر صعب).

في هذا السياق، يسمح أسلوب «السياسة الواقعية» للمسؤولين الروس بالتعاون مع إسرائيل، وكذلك مجموعة مختلفة من الدول العربية. كما أنهم يعلنون معارضتهم لانتشار الأسلحة النووية، بينما يوفرون الحماية لإيران من التهديدات الغربية والإسرائيلية المعارضة للانتشار النووي. فالدبلوماسيون الروس ينتقدون بشدة الفشل الأميركي في إحلال السلام في العراق، لكنهم انتقدوا تعجل البنتاغون في الخروج من العراق قبل إنهاء المهمة (الأمر الذي يتكرر حدوثه الآن في أفغانستان).

وعلى الرغم من أن القادة الروس يزعمون أن بلادهم تواجه خطر «الإرهاب الإسلامي» مثلها مثل بقية الدول الغربية، فإنهم يهاجمون ما يسمونه «حملة الغرب الصليبية الدينية» ضد المسلمين. لكن الروس، الذين تقلقهم الصراعات الداخلية بين المسلمين والآخرين، يسعون إلى تجنب التورط في أي «صراع حضارات» بينما يحرصون على تصوير بلدهم على أنه يلعب دور «الجسر» بين تلك الحضارات.

الروس مطمئنون للوضع الراهن في إيران. فهم يعارضون حصول إيران على أسلحة نووية، لكنهم في الوقت ذاته يعارضون أي هجوم غربي أو إسرائيلي من الممكن أن يشجّع التطرف الإسلامي أو يؤدي إلى تغيير يستحيل التنبؤ به للنظام في طهران، الذي قد يأتي بحكومة إيرانية أصولية متطرفة أو يأتي بحكومة أكثر موالاة للغرب، وكلاهما خيار مضر بمصالح موسكو.

إضافة إلى ما سبق فإن المناوشات التي تحدث بين إيران ودول الغرب تجعل من روسيا الشريك الاقتصادي الأكبر لإيران. واستبعاد إيران من المشاركة بالأرض أو النفط والغاز الطبيعي في خطوط الطاقة الغربية «عبر بحر قزوين»، التي يرعاها الغرب.. والتي من الممكن أن تقلل من اعتماد أوروبا على الإمدادات الروسية، يؤدي إلى رفع أسعار الطاقة عندما يجري استبعاد النفط والغاز الإيراني من الأسواق الدولية، وهذا ما يجعل موسكو تقوم بدور الوسيط في بعض الأحيان بين إيران والغرب.

من ناحية أخرى، ترتبط روسيا بعلاقات تجارية مع بعض دول الشرق الأوسط التي تشتري السلاح الروسي وتستضيف المستثمرين الروسيين، لكن ينبغي تحاشي المبالغة في الاعتماد على ذلك الطرح، لأن الزبائن الأكثر شراء للأسلحة الروسية هم الصين والهند. كذلك فإن لدى شركات السلاح التابعة لوزارة الدفاع الروسية كما هائلا من العقود الغربية، وبالتالي فلن تتعرض لخسائر تذكر إذا ما توقفت صفقات الأسلحة مع سوريا أو إيران. فتجارة روسيا الإجمالية مع الصين والهند وبعض الدول الأوروبية الكبرى تتخطى بمراحل حجم تجارتها مع دول الشرق الأوسط. في نهاية الأمر، الإدلاء بالتصريحات سهل، والقادة الروس يفعلون ذلك بسهولة، بينما ينفقون القليل من الموارد لتعزيز مصالح موسكو المتواضعة في الشرق الأوسط. الكرملين يفضل الحصول المجاني على ثمار جهود الآخرين بينما يتلاعب بالتوترات الإقليمية لحساب موسكو.

* كبير زملاء ومدير قسم التحليل السياسي – العسكري في معهد هدسون بالولايات المتحدة

————-

أتتوقع استمرار هذا الوضع الإقليمي أي تقدم روسيا مقابل تراجع الدور الأميركي في المستقبل المنظور؟

نعم… .. ولن تكون روسيا وحدها التي ستغتنم فرصة ضعف الإدارة الأميركية الحالية

د. محمد مبارك جمعة

من دون شك، لن تكون روسيا وحدها التي ستغتنم فرصة ضعف الإدارة الأميركية الحالية وتراجع دور الولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط، بل معظم القوى الإقليمية ستسعى لتحقيق أقصى قدر من الاستفادة. في ما يتعلق بروسيا، فإن هناك عدة أسباب تدفعها إلى ملء الفراغ الذي تتركه واشنطن في الشرق الأوسط، وأول هذه الأسباب يتمثل في الوضع السوري. إن الحرب الدائرة في سوريا بين قوات المعارضة وكتائب النظام، مع التراخي الأميركي الذي انتهى إلى الإعراض عن القيام بأي دور يحسم الوضع بسرعة ويلجم آلة الدمار المسلطة على الشعب السوري، تجعل من مستقبل المنطقة هناك غير واضح المعالم. وهو أمر لا ينعكس سلبا على أمن دول الجوار ومصالحها فحسب، بل يهدد أيضا المصالح الروسية، والقواعد الروسية في سوريا، والحضور الروسي في مياه المتوسط، وروسيا تدرك ذلك جيدا، وتعلم أن الصراع الدائر في سوريا سوف ينتهي بالتأثير على نفوذها، ولذلك فإنه من مصلحة روسيا أن تفكر بشكل استراتيجي، وأن توجد لنفسها موطئ قدم أخرى في الشرق الأوسط، ولن تجد روسيا فرصة أفضل من الفرصة المتاحة لها من واشنطن، في خضم تراجع الدور الأميركي في المنطقة وضعف الإدارة الأميركية الحالية، كي تزيد من نفوذها واهتمامها بمنطقة الشرق الأوسط، بما فيها منطقة الخليج العربي، ولتؤمن لنفسها نفوذا يعوضها عن ذاك الذي قد تفقده بالكامل في سوريا.

الأمر الآخر الذي يصب في الاتجاه نفسه هو أن دول مجلس التعاون الخليجي، والإقليم الذي تقع فيه باعتباره الأهم في الشرق الأوسط، يمثلان كتلة من النفوذ المالي والاقتصادي والتجاري على مستوى العالم، وممرا لأكثر من 50 في المائة من إمدادات البترول في العالم، ومن صالح أي قوة في العالم أن يكون لها نفوذ في هذه المنطقة، وأن تتمتع بعلاقات جيدة مع دول الخليج، ومن المهم الإشارة هنا إلى أن أغلب دول مجلس التعاون تربطها بروسيا علاقات جيدة، وهناك تعاون متبادل على مختلف الأصعدة، ولجنة للحوار الاستراتيجي، وهو ما يعني أن الظروف مهيأة لروسيا كي تستفيد من جميع هذه المعطيات التي يضاف إليها كون منطقة الشرق الأوسط، ودول مجلس التعاون الخليجي، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، مهد العروبة وقلب الإسلام، وكعبة تتوجه إليها أبصار وقلوب العرب والمسلمين، بما يعطيها أهمية قصوى في العالمين العربي والإسلامي.

أيضا علينا ألا نغفل حقيقة أنه من المتعارف عليه، بالنظر إلى طبيعة العلاقات الأميركية الخليجية خلال أكثر من ثلاثة عقود، أنه حينما يصل الجمهوريون إلى رئاسة البيت الأبيض فإن العلاقات الأميركية الخليجية تتجه أكثر إلى الاستقرار (مع استثناء الفترة التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر/ أيلول)، على عكس الحال حينما يكون الديمقراطيون في الحكم. ومع تزايد التوقعات بإمكانية عودة الجمهوريين إلى رئاسة البيت الأبيض مجددا – بحسب بعض التقارير الصادرة عن عدد من مراكز قياس الرأي الأميركية وغيرها التي تعتبر أن سياسة الرئيس «الديمقراطي» أوباما، قد أدت إلى خسارة حلفائه في الشرق الأوسط وتراجع الدور الأميركي في العالم – فقد تتشجع روسيا على زيادة سرعة عجلة سعيها إلى تثبيت نفسها في الشرق الأوسط، واستغلال فرصة وجود الديمقراطيين في البيت الأبيض، لأن هذا الوضع قد يتغير كثيرا إذا ما عاد الجمهوريون.

إن سعي روسيا إلى زيادة نفوذها في منطقة الشرق الأوسط باعتبارها منطقة حيوية للغاية، لا يخدم مصالحها هي فقط، بل يصب أيضا في صالح الحليف الأكبر لروسيا «الصين»، التي باتت اليوم أكبر مصدر للسلع والبضائع إلى دول مجلس التعاون الخليجي، متفوقة بذلك على الولايات المتحدة. وترى الصين أن زيادة النفوذ الروسي في منطقة الشرق الأوسط أفضل بكثير من وجود النفوذ الأميركي المنافس، خصوصا أن الولايات المتحدة سعت كثيرا إلى إبعاد الصين عن هذه المنطقة الحيوية على مر السنوات الماضية، ومع ذلك نجح سلاح البحرية الصيني في تكوين سلسلة من قواعد النفوذ على امتداد المحيط الهندي.

في المحصلة النهائية، ليس هناك من شك في أن الاهتمام الروسي بمنطقة الشرق الأوسط سيستمر خلال فترة حكم الرئيس أوباما، وستسعى روسيا إلى تحقيق أقصى استفادة ممكنة، كما أشرنا، من سياسة الإدارة الأميركية الحالية لتحل نفسها محل القوة العظمى التي بدأ نفوذها يتناقص.

* كاتب وأكاديمي بحريني

أتتوقع استمرار هذا الوضع الإقليمي أي تقدم روسيا مقابل تراجع الدور الأميركي في المستقبل المنظور؟

لا… دفاع موسكو عن النظام السوري هدفه تعويض خسائرها من «الربيع العربي»

منير بركات

إن التوازن الدولي النسبي الذي كان سائدا إبان «الحرب الباردة» بين الاتحاد السوفياتي (السابق) والولايات المتحدة الأميركية كان عمليا راجحا لمصلحة الأخيرة، لا سيما الانتشار والتدخلات العسكرية على امتداد الكرة الأرضية. وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي وولادة روسيا الاتحادية غادرت هذه الأخيرة العدائية والتحدي المباشر للغرب بشكل عام، ولم تعد تعتبر التحركات العسكرية الغربية موجهة ضدها، وبالتالي، تهدد أمنها القومي.

إلا أن روسيا لم تكن تساوم مطلقا على المناطق القريبة من حدودها والتي تمثل مجالا حيويا لمصالحها. وبعد النهوض الاقتصادي الذي ارتكز على ارتفاع أسعار الغاز، وعلى الرغم من التفوق الأميركي في مجال التسلح، باستثناء السلاح النووي، عادت روسيا إبان أحداث جورجيا عام 2008 لتنفيذ خطة تعيد إليها حضورها العسكري والسياسي. وفي إطارها أعادت الطلعات الجوية الاستراتيجية، وأجرت البحرية الروسية مناورات ضخمة في المحيط الأطلسي، في عرض للقوة هو الأكبر منذ فترة طويلة. ثم إنها أعادت الزيارات التقليدية للأسطول الروسي الكبير إلى موانئ الدول الصديقة، كسوريا وفنزويلا وكوبا ونيكاراغوا، بالإضافة إلى إجراء أضخم عرض عسكري في الساحة الحمراء بمناسبة «يوم النصر».

وعلى الرغم من التعاون وتبادل المصالح بين واشنطن وموسكو، خاصة، ضد التطرف في باكستان وموضوع أفغانستان والملف النووي الإيراني، فإن التعارض بعد «11 سبتمبر (أيلول) بين أميركا وروسيا كان واضحا نتيجة لدخول الشرق الأوسط من قبل أميركا من زاوية مواجهة الإرهاب والخلاف على تحديد مفهومه. وكان الروس يدركون الأهداف الأميركية والأطماع في السيطرة على النفط. وبدأ الهجوم الأميركي – البريطاني على العراق من دون تغطية من مجلس الأمن، وتم احتلال العراق على الرغم من معارضة روسيا وفرنسا، إلا أن الموقف الروسي حَكَمته المصالح بالدرجة الأولى من خلال حصول الشركات الروسية سنة 2009 على صفقة تحديث حقول النفط العراقية. وبعد فشل النتائج السياسية المنشودة من قبل أميركا في العراق، وبعد زيادة النفوذ الإيراني فيها وفي المنطقة، دخلت روسيا بقوة على الخط الإيراني في مواجهة أميركا ومحاولة الاستفادة من قدرات إيران المالية والاقتصادية واستهداف تركيا التي تشكل الذراع الأقوى في المنطقة للحلف الأطلسي، بالإضافة إلى تحييد المخاطر الإيرانية المستقبلية على روسيا.

وفي عام 2007 حاول بوتين تحفيز الدول الشرق أوسطية في التسلُّح لكي تكون سوا كبيرة للسلاح الروسي ولتأمين الدفاعات العسكرية القوية للدول النفطية بعد احتلال أفغانستان والعراق، خاصة بعد اكتشاف المخزون الكبير من الطاقة في بحر قزوين والصراع عليه وعلى خطوط الإمداد ما بين أميركا وروسيا، بالإضافة إلى اكتشاف القدرات الكبيرة في الشرق الأوسط من النفط والغاز، لا سيما في لبنان وسوريا، حيث أرادت روسيا أن تكون شريكا أساسيا في ذلك فطورت مرفأ طرطوس في سوريا حيث توجد قاعدة عسكرية لها.

روسيا لُقنت درسا في ليبيا بسبب ترددها بين الحفاظ على مصالحها الضخمة في هذا البلد من المشاريع الاستثمارية للشركات الروسية إلى صفقات السلاح، وفي عقود تجارية أخرى، لا سيما بناء محطة نووية للأغراض السلمية وإنشاء مترو الأنفاق في طرابلس. وحاول الروس إبان اندلاع الثورة في ليبيا أن يلعبوا دورا وسيطا لكنه منحاز للنظام، ولم يقتصر موقفهم إلا على المطالبة بحماية المدنيين، فناصبوا للشعب الليبي العداء، وسقطت مصالحهم وبخسائر فادحة، واستعيض عن شركاتهم بشركات أخرى. بالإضافة إلى الضربات الاقتصادية التي وُجهت لهم في تونس واليمن ومصر، وذلك كله بسبب سياسة التردد ومحاولة الحفاظ على الأنظمة في ظل «الربيع العربي» الصاعد.. حيث كان موقفهم يخفي مهادنة ودعما للديكتاتوريات، فأصبحت روسيا الخاسر الأكبر من الثورات العربية. إن استماتة الروس في الدفاع عن النظام السوري تهدف فقط إلى تعويض خسائرهم الناتجة عن الربيع العربي، خاصّة في ظل ما تختزنه سوريا من ثروات من النفط والغاز، ولذلك اعتبر الروس بموقفهم الرسمي أن مصير الوضع في سوريا سيرسم طبيعة النظام الدولي الجديد. ثم إن العقل الروسي يحاول تأمين وتعزيز وتطوير التواصل مع مصالحه في سوريا القائمة على صادرات الأسلحة والعقود التجارية والمصالح المالية والمشاريع الاستثمارية، كإنشاء المصانع والبنى التحتية في سوريا، بينما إيران تسدد المستحقات السورية أو جزءا منها للخزينة الروسية. وحقا فتح الموقف الروسي من الأزمة السورية آفاقا اقتصادية مع العراق وإيران لا سيما صفقات السلاح الضخمة.

يبدو للمرء أن الموقف الروسي حيال الأحداث السورية شكل «هجوما مضادا»، إلا أن جوانبَه السلبية بالنسبة إلى الروس تتمثل في تزايد العداء من الشعوب العربية خاصّة الشعب السوري. ثم إن سبب انطلاقهم هو أنهم لم يعد لديهم شيء يخسرونه في حال خسارة سوريا، في الوقت الذي يبحثون فيه عن الشراكة في تقاسم الثروات بتثبيت معادلة التوازن تحديدًا مع أميركا والصين، مع اعتقادي بأن الروس لن يتمسَّكوا بنظام الأسد في حال نجاح تسوية تقسيم المصالح لأن المبدأَ الذي يحكم الأولوية في موقفهم السياسي تغليب المصالح على المبادئ.

إن التردد الذي حَكَم موقف أوباما تحديدًا حول الأحداث السورية في مواجهة التشدد الروسي، أظهر صورته الضعيفة أمام المجتمع الدولي وأمام الرأي العام الأميركي، بما فيها أطراف الإدارة الأميركية وأمام الحزبين الجمهوري والديمقراطي اللذين رفضا موقفه المتأخِّر في التعاطي مع الأزمة. وأتت موافقة النظام السوري على نزع السلاح الكيماوي وتدميره حلا مؤقتا لمأزقه وورقة قوية لمصلحة إسرائيل، التي سحبت مبرر توجيه الضربة العسكرية لسوريا، مع العلم بأن روسيا ليست بعيدة عن التعاون الاقتصادي مع إسرائيل، لا بل تعتبرها شريكة أساسية في المصالح في الشرق الأوسط، عدا عن التقاطع بين أميركا وإسرائيل وروسيا وإيران حول مواجهة التشدُّد الإسلامي.

علينا ألا نغفل الأهداف الاستراتيجية الروسية القائمة على النزعة السوفياتية ولو مختلفة في الشكل، وهي التي تطمح إلى إحياء الدور الروسي العالمي ومصالحه القومية ومكانته الدولية، وهذا ما جعل بوتين يتشدَّد في رفض التفرُّد الأميركي، ويضَعَ الشرق الأوسط في مقدمة اهتماماته وحصل على عقود كبيرة في لبنان وسوريا حول ملف النفط.

* كاتب ورئيس «الحركة اليسارية اللبنانية»

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى