صفحات سوريةعمر قدور

نيافة مطران النظام/ عمر قدور

 احتار النشطاء السوريون في معرفة رجل الدين المسيحي المرافق لوفد النظام في مونترو قبل التأكد من أنه المطران هيلاريون كبوجي. عدم معرفة الرجل أمر متوقع بسبب انشغال الشباب السوري بالقضية السورية، وأيضاً لأن قصة سجن المطران من قبل السلطات الإسرائيلية باتت قديمة جداً بالقياس إلى أعمار الأجيال الحالية. حتى مشاركته في ما سُمّي أسطول الحرية في عام 2010 صارت في حكم المنسية لأن الإعلام السوري لم يركّز عليها حينذاك بقدر تركيزه على مشاركة السورية شذى بركات. عطفاً على ذلك قلائل جداً الذين يعرفون المنبت السوري للمطران، وربما أقل منهم من يعرف ذلك في مدينته حلب التي أطلقت اسمه على شارع في مركزها، شارع يضم أيضاً مدرسة قديمة ومعروفة باسم “القدس”.

لو أن وفد النظام، الذي يسوّق خارجياً لعلمانيته، اصطحب معه رجل دين مسيحي من داخل سوريا لكان ذلك مفهوماً أكثر من اصطحابه لرجل شبه منسي في بلده الأم. فكبوجي أصبح مطراناً للقدس للروم الكاثوليك في عام 1965 واشتُهر بذلك إثر القبض عليه ومحاكمته هناك. ولعل هذه الفجوة الزمنية تكشف أيضاً عن بعد المطران عن قضايا بلده، من دون أن تشفع له، وعن اغترابه بخاصة عن وضع المسيحيين في سوريا عموماً، وفي حلب مدينته التي يُتوقع أنه لا يذكر جيداً نسيجها الاجتماعي، ولا يعلم أن مسيحييها شهدوا أكبر نسبة نزوح لهم في ظل نظام البعث.

سيكون واجباً التنويه في البداية بأن مدينة حلب شهدت بعد تحرير قسم منها أعمالَ عنف محدودة جداً قامت بها فصائل متطرفة تجاه بعض المسيحيين، الأمر الذي لاقى استنكاراً عاماً في صفوف الثورة، لأن الوجود المسيحي في حلب جزء أساسي من تركيبة المدينة السكانية وثقافتها الاجتماعية. الصورة ليست وردية تماماً، فتعايش أبناء المدينة مع بعضهم البعض لا يعني الغياب التام للفوارق أو الحساسيات. فأسوة بالكثير من المدن العربية، وربما العالمية، تشهد المدينة تكتلات سكانية قائمة إما على الدين أو العرق أو الانتماء المناطقي البحت. مع ذلك تتميز حلب عن المدن السورية الأخرى بأنها المدينة التي يبدأ فيها أسبوع العمل الفعلي يوم الاثنين، لا يوم الأحد وهو أول أيام العمل في الدوائر الرسمية. العديد من المهن الرئيسية في مدينة حلب عطلتها الأسبوعية يوم الأحد؛ الأسواق الرئيسية للألبسة وكذلك المهن المرتبطة بالميكانيك وصيانة السيارات التي تُشتهر بها المدينة بغالبيتها تعتمد يوم الأحد كيوم عطلة، مع الإشارة إلى أن يوم العطلة هو يوم اختياري، وإلى أن غالبية من يعملون في تلك المهن ليسوا مسيحيين وإن كان المسيحيون أو الأرمن منهم روّاداً فيها.

بعيداً من تنظيرات العيش المشترك، لم تعرف حلب خلال المئة سنة الأخيرة حوادث عنف طائفي. وفي الغالب ينظر المسلمون فيها إلى المسيحيين نظرة مشوبة بالاحترام بسبب كفاءة الأخيرين في المهن التي يزاولونها ومناقبيتهم الأخلاقية. وفي مدينة تُصنّف كعاصمة اقتصادية لا تندر الشراكات التجارية بين أفراد من الديانتين، ولا توجد حساسية قائمة على التنافس الاقتصادي بسبب هيمنة غير مستحقة لأي طرف على الآخر. ذلك لا يلغي الفوارق الثقافية بين الجانبين، وهي فوارق موجودة بتفصيل أكبر ضمن كل طرف أيضاً، ما يبرّر وجود مناطق ذات غالبية مسيحية وأخرى ذات غالبية إسلامية، ولكن عند التمحيص في كل منها تظهر التكتلات المناطقية أو المذهبية أو الإثنية التي سبقت الإشارة إليها.

من المؤكد أن المطران كبوجي لا يعرف مدينته الأم، لئلا نتهمه بالتضليل. فقبوله بأن يكون واجهة إعلامية في وفد النظام للإيحاء باضطهاد يتعرض له المسيحيون لولا حماية النظام يعني التنكر لإرث بلده، والذي إن لم يكن ناصعاً تماماً فهو ليس بالسوء الذي يصوّره نظام لم يكن له أي فضل في تعزيز ثقافة العيش المشترك. نيافة المطران، في اغترابه عن مجتمعه، يمثّل على نحو نموذجي تلك الثقافة التي تمحو تاريخاً ومجتمعات من أجل كفاح مزعوم، إذ كان من المنتظر نظرياً منه، هو الذي شارك في أسطول الحرية لفك الحصار عن غزة، أن يقوم بالمثل إزاء معاناة أبناء شعبه في سوريا الذين يحاصرهم النظام. كان من المنتظر منه أن يفعل ما فعلته شريكته في أسطول الحرية (شذى بركات) التي بقيت وفية لقناعاتها، ورأت في مأساة السوريين في مخيمات النزوح توأماً للمأساة الفلسطينية.

نيافة مطران النظام، الذي تجاوز التسعين من عمره، ارتضى لنفسه التنازل عن موقعه “القومي” المستمد من مأساة الفلسطينيين، غير عابئ حتى بمأساة الفلسطينيين في مخيم اليرموك، ويا ليت له نباهة الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي الذي حمّل حكومته المسؤولية الأخلاقية والقانونية عنهم، لأنها هي من تسبب بنزوحهم وعيشهم في ظل نظام يبيدهم جوعاً. العمر وحده لا يكفي لتفهم سقطة نيافة المطران أو لتقديم الأعذار المخفِّفة، هذه الأخيرة قد نلتمسها له من أصدقائه الكثر في حلف الممانعة، إن كانت زيادة عدد المتورطين في الدم تقلل من شأن المسؤولية الأخلاقية لكل واحد منهم.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى