هل ينعكس بقاء النظام السوري على تركيا؟
نافع غضب الدليمي
غرابة فيما يُعتبر تذبذب المواقف بشأن سوريا لرئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان «الأرض الحمراء». ذلك إذا ما أُخذت في الاعتبار أكثر من نواياه كإنسان متطلباتُه كسياسي في برمجة مصالحه الحزبية والقيادية في سياق المصلحة العامة لبلده. وبالتالي ارتهانه كبقية سياسيي الأنظمة الديمقراطية لإرادة الشعوب في دورات انتخابية لا تضمن البقاء الدائم في السلطة.
الغرابة كل الغرابة يجب أن توجه للمؤسسة العسكرية التركية التي تمثل ككل جيوش العالم الضمان الدائم للدولة وللدفاع عن وجودها. فهذه المؤسسة بغض النظر عن الصفقات المصلحية للسياسيين مع عائلة الأسد كان يفترض حسب كل المؤشرات الواقعية أن تدفع منذ البداية الحكومة والسياسيين دفعا لاستغلال فرصة الثورة السورية للتخلص من نظام كان ولا يزال في كل المعادلات الجيوسياسية- العسكرية يُهدد ليس فقط أمن بل حتى وجود الدولة التركية التي لسنا بصدد الدفاع عنها بقدر مناقشة معطيات مخططات أقليمية ودولية كانت ولا تزال قائمة حسب مؤشرات الواقع الراهن، وليس أقلها الآتي:
• تدهور علاقة تركيا مع الكيان الصهيوني. وانخراط الأخير في التعاون مع الجزء اليوناني من قبرص في التنقيب عن الغاز في المتوسط رغم اعتبار تركيا ذلك استفزازا وتهديدا لمصالحها يعني أن هذا الكيان لم يكن ليفرط بتركيا لهذا الحد لولا أنه قرأ وانخرط في المعطيات التالية.
• رفض الاتحاد الأوروبي انضمام تركيا إليه يعني عمليا لا ضمنيا انتفاء حاجة أوروبا إلى الأساس المصلحي الذي أُقيمت عليه تركيا كدولة عام 1923 على أنقاض الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى لتكون سدا أمام الطموحات التأريخية لروسيا بالامتداد إلى البحر المتوسط. ذلك كما سُمح للشاه البهلوي بالتوسع على شعوب وإمارات أخرى وإقامة إيران عام 1925 لوقف الطموح الروسي بالوصول إلى الخليج العربي.
• الأزمات المالية وتزعزع المصداقية والمكانة العالمية وبالتالي قدرات القوة الأولى في العالم يعوضها الأوروبيون كالعادة عبر التأريخ برفع منسوب العلاقات مع روسيا. ولاسيَّما وأن ذلك بات ملحا في ضوء أزمات دول الاتحاد الاقتصادية وما تُحتمه من تخفيض الإنفاقات الدفاعية. وإمكانية الاستفادة في المقابل من القدرات الاقتصادية الاستثمارية المتصاعدة لروسيا. هذا التقارب الحتمي سيضطر أوروبا إلى غض الطرف عن الحلم الروسي المذكور بالوصول إلى البحر المتوسط كشريك مصالح هذه المرة وليس كعدو «ديني زمن القياصرة أو أيديولوجي شيوعي». وعبر آسيا وبالتحديد سوريا، لا عبر أوروبا ذلك بعد أن أغلقوا هذا الطريق إلى المتوسط أمام الروس باستيعاب الجبل الأسود في الحلف الأطلسي.
• إذا ما أُخذ في الاعتبار أن الطموحات «الإمبراطورية» الروسية كـ «التي يُعتقد تصاعدها الآن في عهد بوتن» غالبا ما كانت تنطوي على امتدادات إلى المنافذ البحرية المهمة سواء بشكل مباشر أو من خلال تغيير تركيبة الدول الواصلة إلى هذه المنافذ. فالاعتقاد المستخلص من تجارب الماضي تؤكد أن القائمين على هذه المشاريع الحيوية الطموحة لروسيا لن يترددوا عن تنفيذها بمجرد أن تُتيح لهم الفرصة ذلك إقليميا وعالميا. ولن يحتاج هذا الأمر أكثر من تأجيج أحقاد دينية ومذهبية وعرقية تأريخية لا تزال كالجمر تحت الرماد. ولا صعوبة في دحرجتها لتكبر ككرة الثلج بدءا من أرمينيا عبر جنوب تركيا وأنطاليا وصولا إلى لواء الأسكندرون وسوريا. هذا مع سهولة كسب تأييد سكان هذه المناطق تحت ما يسمى بـ «حلف الأقليات الشرقي». وما لذلك من تفكيك لجزء حيوي من تركيا الحالية. ما سيمهد بالتالي لانهيار شامل إذا ما أخذ في الاعتبار الجدل الدائر داخل تركيا نفسها، الأكاديمي وغيره بشأن الهوية الوطنية، وإدراك روسيا وغيرها من دول المنطقة حقيقة أن أكثر من %70 من سكان ما تُعرف بتركيا حاليا هم ليسوا أتراكا «تتر- بدو الصين» أصلا، بل هم من سكان البلاد الأصليين السريان والآشوريين والعرب «ديار بكر» واليونانيين منذ قديم الزمان حتى قبل عهد الإمبراطورية البيزنطية. علما أن تجارب تفكك الاتحادين السوفيتي واليوغسلافي لا تزال في الأذهان.
• على أن الركيزة في كل ما تقدم هو النظام السوري الذي سيمثل بقاؤه النقطة النظرية للشروع في مشاريع كتلك. ونقطة ارتكاز عملية لإنجاز هذا المشروع الذي كانت روسيا قد خاضت من أجله الحروب المباشرة أو عبر الوسطاء من مؤيديها بين أقليات المنطقة منذ عهد القياصرة. وكادت تحققه إبان الحرب العالمية الأولى وما خلفته مما بات يُعرف بـ «مجازر الأرمن». ثم في العهد الشيوعي بقيادة ستالين. هذا ما قد يتكرر وإلا كيف يمكن تفسير التمهيد النفسي الذي بمقتضاه يُعارض الوزير لافروف منطق العقل في أن يحكم أغلبية السوريين أنفسهم، لا بل ويسميهم مذهبيا. ويزيد عليه مندوبه في الأمم المتحدة فيتالي جوركين محذرا من «تدريب سوريين في كوسوفو. وهو ما تم نفيه». وفي كل هذا ربط متعمد وتذكير بتفكك يوغسلافيا. وما له من تلميح إلى إمكانية تفكيك سوريا وامتدادها إلى تركيا.
فهل فوت الأتراك سياسيون وعسكريون مع اندلاع الثورة السورية فرصة تصفية هذا المشروع القادم إلى بلادهم تهديدا لوحدتها ووجودها. عندما اهتموا في البداية بإمكانية إنقاذ صفقاتهم المصلحية مع النظام على حساب نزيف الدم السوري.. وهل باتوا يدركون أن سياسة «الزيرو- صفر مشاكل» قد كانت سطحية-عاطفية- مصلحية. إذا ما أخذ في الاعتبار أنها حولت «الزيرو» إلى «دائرة» باتت تطبق عليها من كل الجهات عداء من روسيا وحلفائها واليونان وقبرص والكيان الصهيوني وسوريا وإيران وحلفائها. هذا مع أن الفرصة لا تزال سانحة مع صمود الثوار السوريين لتصحيح هذه السياسة المتهاونة. ما يتطلب دعمهم النوعي السريع والجدي، إن لم يكن من منطلق الجيرة والإنسانية فالأكيد من ضرورة وطنية تركية خالصة. وحتى لا يكون بقاء النظام السوري منعطفا يُهدد تركيا ووجودها كما شكلت الدائرة المضادة في البلقان في النصف الثاني للقرن التاسع عشر نقطة انهيار للدولة العثمانية. وهذه ليست دعوة لأن يتعلم الأتراك الحرف العربي. بل على الأقل قراءة مترجمة لتأريخهم وليستنبطوا العبر بأنفسهم.
*نقلاً عن صحيفة “العرب” القطرية.