صفحات الحوار

هنادي زرقه: الشعر نلتقطه في كل مكان

عناية جابر

في مجموعتها الشعرية الجديدة “الزهايمر” وعبر حياة تجمع سيدة عجوز وشابة، تُقارب الشاعرة السورية هنادي زرقه حالة تبدو في الغالب متفلتة من النقد، لتخضعها شاعرية لافتة لمنطق المباشرة والعفوية، في نصوص مشغول على تركيبها بجمالية ودراية. مع الشاعرة هذا الحوار:

• في مجموعتك الشعرية الجديدة “الزهايمر” تلك العلاقة الشعورية الاحتضانية لوالدتك في مرضها، وينسحب هذا على علاقتك أنت بالحياة وأشياء هذه الحياة وناسها، هل هذه قراءة صحيحة للمجموعة؟

– ليس هناك قراءة صحيحة وقراءة خاطئة، أعتقد أنَّ لكل قارئ طريقته في القراءة تبعاً لثقافته واهتماماته والزاوية التي ينطلق منها في قراءة النص الأدبي. قد تشي المجموعة بذلك الاحتضان في واحد من وجوهها، غير أنها تحمل، في العمق، حالة رفض واستنكار لصُورِ الأم النمطية التي قدمها الأدب كحالة مقدسة لا يجب مقاربتها بأي نقد، ومن جانب آخر، ثمة خطٌّ بياني يتأرجح بين التبرّم والرفض، التمرد والحب، الشفقة والعجز أيضاً، علاقة يشوبها التوتر في كثير من الحالات، هي الحالات التي نمرّ بها جميعاً في حياتنا اليومية في علاقتنا بالأشياء والأشخاص، لكن في “الزهايمر” تمّ التركيز على حالة امرأتين، عجوز وشابة، صادف أنَّ إحداهما أمّ للأخرى، وما تمرّ به المرأتان من إخفاقات وخذلان ووحشة، امرأتان تخوضان حروبهما الأنثوية وحيدتين في مجتمع مزيف ومنافق، قد يبدو أنهما متفقتان، بيد أنه، في حقيقة الأمر، هناك صراع وتنافس يحكم علاقة الإبنة بالأم على الرغم من تعلقها الشديد بها، وكل امرأة منهما تخوض حربها على حدة، في “الزهايمر” تلك الخيبة والشعور المرير بالنكران الذي يتعرض له الفرد في مجتمعاتنا ما إن يُصاب بمرض نفسي.

تفاصيل يومية

* تتميزين بالحرية والتفلت من كل ما يحكم القصيدة من إيقاع خارجي وداخلي حتى، كيف تبنين قصيدتك؟

– أكتب قصيدة النثر، وهي منفلتة، في العادة، من الإيقاعات. تبدأ القصيدة في التشكل في عقلي وتعيش معي أياماً قبل أن تجد طريقها إلى الورق. لحظة ولادة النص تكون مفاجئة، لا أختار الشكل الذي أكتب به ولا أبحث عن الفكرة، غالباً ما أتبع نصّي، بما يحمله من رفض وتمرّد، ينعكس من دون وعي في كتابتي. وهذا لا يعني، البتّة، أنني أكتب كيفما اتفق، ما يهمني هو الاشتغال على بنية النص قبل حالته الشعورية، الإمساك بالقارئ من أول جملة وشدّه إلى النص، وتحويل زاوية نظره إلى الوجهة التي أريد بما يتطلبه ذلك من جهد كبير في تركيب النص وإضفاء الجمالية الممكنة عليه. وكل ذلك يتطلب ثقافة عالية ودراية بتقنيات الكتابة.

* الصورة في مشهدك الشعري، تأخذ حيزها من اهتمامك في تركيب القصيدة، وهذه إيجابية غالباً ما تفاجئين بها القارئ، كما لو كاميرا تلتقط الأشياء، ما رأيك؟

– أميل في كثير من نصوصي إلى مباغتة القارئ، ليس الأمر تقنية يجب تطبيقها. الصور التي تأخذ حيزاً كبيراً في نصوصي يراها البشر العاديون في دروبهم ويغفلون عنها، ما أرصده هو الغائب في الصورة، وينصبّ اهتمامي على التفاصيل اليومية والعلائق التي تربطها بعضها ببعض، تفاصيل تجتمع لتشكل حياة الأفراد وعلاقات هؤلاء بالأشياء المحيطة بهم، وبتعبير آخر إعادة رسم المشهد بلغتي وكاميرتي الخاصة.

* ثمة تمرد، رغم المرض والخطر والموت في حنايا قصيدتك، هل هو التمرد أم الحلم بحرية ما؟

فعل حرية

– لا أفكر كثيراً في الموت على الرغم من حضوره الطاغي في المشهد السوري بشكل عام، وفي حالة مرض أمي على وجه الخصوص، ما يعنيني هي اللحظة التي أعيشها، اللحظة التي أعيشها الآن هي حياتي الكاملة، وهذا في حدّ ذاته رفض لما أمرّ به، علّمني مرض أمي أن أموراً أسوأ بكثير من الموت قد تحصل، وكانت تجربتي معها كفيلة بالتمرين على التكيف مع الأسوأ، وربما كتابتي عن “الزهايمر” كانت تحمل في بعض ثناياها ثورة على ما يمكن أن يحتمله الشعر من مواضيع جديدة. لا يمكن أن يكون الشاعر متصالحاً مع واقعه ومجتمعه وإلا لمَ يكتب الشعر؟ حملتْ نصوصي القديمة في مجموعاتي السابقة حالة الرفض والحلم بالانعتاق من ربقة المجتمع، كأنثى أولاً ترفض الأدوار المنوطة بها، وكفرد يرفض الخنوع والاستسلام لواقعه، ثمة حلم في كلّ نص أكتبه. نصي قلق دائم، أنكأ الجرح لأطهره، وما أحمله من تمرد ناجم عن رغبتي الدائمة في التغيير، لا أستكين للراهن ولا أعتبر المستقر حالة صحية، ما أقترفه من فعل حرية في الكتابة قد ينتهي بتمزيق كل ما أكتبه، وقد تكون الحرية ورقاً مهدوراً في النهاية، إلا أنني لا أنفك أحلم وأفكر بغدٍ أفضل.

* لا بدَّ من تأثرات لدى كاتب أو شاعر، لمن تقرئين؟ وبمَن من الشعراء تأثرتِ؟ وما مصادر تأثركِ غير الشعر والكتابة، هل هي الحياة نفسها؟

– بطبيعة الحال، أنا قارئة نهمة قبل أن أكون شاعرة، أزعم أنني قرأت معظم الشعراء العرب وكثيراً من شعراء الغرب ونجوت من تأثيرهم، لا أعرف إن كانت هذه ميزة، لكنني لم أكتب نصاً يشبه نصوص الآخرين. لا أميل كثيراً إلى قراءة الشعر، أقرأ النظريات النقدية، وكتب التاريخ، والروايات. أعتقد أن الشعر يمكن أن تلتقطه في حانة أو من حكاية امرأة عجوز أو مشهد يحدث أمامك، ولا يمكن أن تفتش عنه في الكتب، غير أن الثقافة والقراءة تضفي على النص مزيداً من التماسك. في “ألزهايمر”، على سبيل المثال، كان مرض أمي هو ما حرّضني على كتابة المجموعة هذه، واضطررت لقراءة كتب طبية واستخدام مصطلح طبي في أحد نصوصي، ربما لو لم تُصب أمي بهذا المرض لما عنى لي مرض الزهايمر شيئاً، وهنا الحياة تباغتك بموضوعات قد تكون غافلاً عنها. من كان يفكر قبل ثلاث سنوات في أن ثورات ستجتاح بلدان العالم العربي؟ غير أنَّ هذا ليس مسوّغاً لدى الشعراء كي يكتفوا بالحياة لكتابة نصوصهم، لا بدّ من القراءة والثقافة، فالمعاني تنضب إن لم نرفدها بثقافة عميقة، ولا وجود لشاعر جيد من دون ثقافة متمكنة يحملها.

* هل تعني لك الحال السورية راهناً، وهل هي موجودة في هذه القصيدة أو تلك وإن بشكل مضمر؟

-لا يمكن أن تكون الحال السورية راهناً وإن امتدت لسنوات، ما يحدث الآن سيحمل التغيير، ومهما طال ما من عودة إلى الوراء. أنا متفائلة رغم كل هذا الخراب. ربما يكون هذا ضرباً من الجنون، أو أضغاث أحلام شاعر، إذ كيف يمكن أن تشعر بالتفاؤل وسط الدمار والتخوين والدم، كشاعرة وإنسانة سورية أثق بالسوريين لأنني أعيش بينهم، أتنفسهم، أشبههم في تقلباتهم، وتشوهاتهم، أعرف وأعيش من قرب آلام الذين نزحوا وتهجّروا واضُّطهِدوا وقُتِل ذووهم، أثق بالناس البسطاء الذين ما زالوا يحلمون بسوريا واحدة لكل السوريين، هؤلاء المغيبون عن الأجندات السياسية.

ربما في مجموعة “الزهايمر” لا يوجد سوى نص واحد أو نصين كتبتهما خلال السنوات الثلاث التي سبقت صدور الكتاب، ذلك أنني انتهيت من كتابته في عام 2011 وصدر بالدنماركية قبل أن يصدر بالعربية، لكنني أحضر لمجموعة أخرى تتناول الحال السورية.

الشعر هو حالة حلم وثورة لا يمكن أن تنتهي ولو مُنيت بالإخفاق مرات كثيرة، أكرر ما قلته سابقاً، كل ما يحدث هو زمن عابر وستنهض سوريا جديدة لكل السوريين.

أجرت الحوار: عناية جابر

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى