ياسين السويحة
في الجزء الثاني من حواره مع جريدة الأهرام، والذي تطرّق فيه للشأن السوري، لم يخرج محمد حسنين هيكل عن خطاب “الممانعة” الفج بخصوص ما يجرى في سوريا: تنويه عابر أشبه بـ”فض العتب” لعدم إعجابه بـ”طبائع النظام السوري” ثم استفاضة حتى الملل في الحديث عن المؤامرة والحملة و”بلاك ووتر” وحلف الأطلسي، وسخرية من الموقف السعودي وكأن شهداء وجرحى ومعتقلي الثورة السوريّة هم من أمراء آل سعود وأعيانهم، وعن رغبات ودوافع الشعب السوري يشير فقط إلى أن هناك رأي واسع ﻻ يريد لسوريا ما حدث في ليبيا. هكذا. فقط!
بطبيعة الأحوال، ليس من المُنتظر أن يبدر عن حسنين هيكل ما يتماشى مع حساسيات الحقوق والحريّات والكرامات الإنسانيّة في إرادات الشعوب، فليس هذا تاريخ الرجل، وليس هذا تاريخ النظام (أو الأنظمة، في حال لم يرغب البعض بوضع عبد الناصر والسادات في “نظامٍ” واحد) الذي عمل فيه مديراً للبروباغندا، وشكّل فيه مثالاً نموذجياً لنمط إعلامي يُفترض فيه، لو أنه يمتلك الحد الأدنى من المنطق والوجدان، أنه رحل خجلاً من نفسه منذ عقود. نمطٌ تجرأ على أن يسمّي أكبر وأسرع هزيمة عسكرية في تاريخ البشرية بـ”نكسة” وكأنها زكامٌ لم يكتمل الشفاء منه، نمطٌ لم يخجل من أن يقول، بعد أن هزم الكيان الصهيوني ثلاث دول عربيّة واحتل ثلاثة أضعاف مساحته في أقل من أسبوع، أن “العدوان لم يحقق أهدافه”، نمطٌ لم يستجب يوماً إﻻ للتصفيق والتبجيل والتأليه، دون أيّ وزنٍ وثقل لكرامة الشعوب ودون أي احترامٍ لعقولها.
يُنهي حسنين هيكل حديثه عن سوريا مستشهداً بما قاله له جمال عبد الناصر يوماً ما، وهذه العادة المتأصلة فيه ذكرتني بنصٍ كتبه محمد الماغوط في النصف الأول من الثمانينات بمناسبة صدور كتاب “خريف الغضب” لهيكل (عام 1983) ونُشر النص ﻻحقاً في “سأخون وطني”، أشهر كتب الماغوط (1987). النص بعنوان “التحنيط”، والمنقول أدناه هو النصف الأول من هذا النص، حيث يتحدث الماغوط عن هيكل.
…
هل قرأت “خريف الغضب” للكاتب الكبير محمد حسنين هيكل؟
ﻻ. لم أقرأه، ولن أقرأه، ولن ألمسه، ﻷن الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل تحوّل، والحمد لله، إلى تاجر جثث ﻻ أكثر وﻻ أقل. فمنذ عشر سنوات ونيف وضع قبر صديقه الروحي عبد الناصر في كيس، وحمله على كتفه، وراح يدور به من مكانٍ إلى مكان يبيعه يومياً للصحف الأسبوعيّة، وبالجملة لدور النشر. وعلى ماذا؟ وكل ما فيه:
قال لي عبد الناصر على الغداء، وهمس لي على العشاء، واستدعاني إلى استراحته، وﻻحقني إلى البيت بتلفوناته، بحيث يختلط الأمر على القارئ ويظن أن هيكل كان رئيسا للجمهوريّة العربيّة المتحدة، وعبد الناصر رئيسا لتحرير جريدة “الأهرام”.
وها هو الآن يضع قبر السادات في الكيس نفسه، ويحمله على الكتف نفسها، ويبيعه بالطريقة نفسها بانتظار الجثة الثالثة، بحجة أنه يزيح الستار عن أسرار كثيرة تتعلق باتفاقيات كامب دايفيد، وما جرّته على المنطقة من مصائب وويلات.
والحقيقة أنه ﻻ يزيح شيئاً من كلّ هذا، وكل دموعه المدرارة على الثورة المصريّة وغضبته على أمريكا وتحذيراته من حرب عالميّة ثالثة ﻷن السادات أزاحه من منصبه في جريدة “الأهرام”.
وﻻ يستغربنّ أحد أن كاتباً كبيراً مثل محمد حسنين هيكل قد يفكر على هذا النحو، إذ ليس كالعربيّ من يحوّل القضايا الشخصيّة إلى قضايا عامّة، والقضايا العامّة إلى قضايا شخصيّة.
والدليل على مصداقيّة دموعه على الثورة المصريّة وغضبته العارمة من المؤامرة الأمريكيّة عليها أنه ﻻ يقبض ثمن أي كلمة يكتبها عنها وعن رجالاتها إلا بالدولار.
ﻻ، لم أقرأ “خريف الغضب” ولن أقرأه ولن ألمسه. ففي ظروف الطغيان ليست البطولة أن تجلس على ظهور الدبابات بل أن تقف أمامها.
http://www.syriangavroche.com/
