وبَعدين؟/ علا شيب الدين
سؤال وجّهته امرأة سوريّة إلى مراسل إحدى الفضائيات، ذات مقابلة في أحد مخيمات اللجوء. صمتَ المراسل آنذاك. إذ هو، إضافةً إلى عدم امتلاكه إجابة محدَّدة عن سؤالٍ من هذا الطراز، يقتصر دوره على “عرض” مآسي اللاجئين السوريين كمادة إعلامية، وعرضها فقط. أليست هذه حال “العالم” أيضاً، في منظماته وهيئاته ومجالسه ومتزعميه، غير المعنيّ بالإجابة عن أسئلة توّاقة لمعرفة متى تنتهي الفجيعة السورية؟
من حيث لا يدري، يحرّض سؤال الـ”بَعدين” اليائس، الهارب إلى الأمام، على التفكير في “القَبْلين”، أو في الصيرورة التي قد تنبثق منها في كل لحظة، إجابات غير متوقَّعة.
في البدء كان الشعب السوري الثائر ولا يزال
هذه ليست رومنطيقية، ولا طوباوية، إنما واقع يتكلم عن نفسه بلغة نفسه. فحسب المرء أن يتأمل التظاهرات المدنية السلمية التي لم تتوقف، حتى بعدما تعسكرت الثورة، كي يدرك كم هذه الثورة مستمرة، وكم حنينها إلى أصلها يشدّها كلما شعر أهلوها بانحرافها عن مسارها. في تظاهرات جمعة “نقل المعارك إلى مناطق الاحتلال الأسدي” 13 كانون الأول 2013 مثلاً، عادت الحيوية إلى معظم شعارات الثورة الأصلية، أبرزها كان: “الموت ولا المذلة”، “هي لله هي لله/ لا للسلطة ولا للجاه”، وطالب المتظاهرون يومذاك الفصائل المقاتِلة المتقاتلة، بتوحيد الصفوف، والانتباه إلى أن العدوّ الأساسي هو النظام الأسدي ومَن يسانده.
تُرى ماذا يمكن أن يقال أكثر مما قيل على مدار أعوام؟ أيّ أدلة وحجج وبراهين يمكن أن تُساق أكثر مما قُدِّم؟ وأي صرخات أوجع في إمكانها أن تهزّ الضمائر؟ الجميع يعرف الأصل والفصل، لكن ما من مصلحة على ما يبدو، في إنهاء الحرب على الشعب السوري وثورته كثورة حرية. فهل تستمر نداءات الاستغاثة؟ ثمة مَن علّمته الأيام دروساً، فآثر الاهتداء بالذات، تيمناً بمَثَل شعبيّ يقول “ما بحِكْ جسمك إلا ظفرك”. مَثلٌ قد يكون مفيداً الانحياز إليه ممارسةً في خضم ثورة شعبية على هذا القدر العظيم من الوحدة واليتم. هناك أسباب وجيهة للاحتكام إلى الداخل، وخصوصاً أن أسرار الجسم وخباياه تحسّها أظفار الجسم نفسه، تحدسها حدساً مباشراً.
المحاصَرون في الغوطة الشرقية بريف دمشق، هم من أولئك الذين طالما تعلّموا دروساً، فعندما فقدوا الأمل في تدخّل دوليّ ينقذهم من الموت جوعاً، وعندما وُضعوا أمام “خيارين”، “الجوع أو الركوع”، اللذَين طالما وقفت وراءهما الجهة نفسها التي وضعت من قبلُ، الشعب السوري الثائر أمام “خيارين”، “الأسد أو نحرق البلد”، ردّ الأهالي بحملة “لا جوع ولا ركوع”، عمدوا من خلالها إلى زراعة السبانخ مثلاً، وأنواع أخرى من الخضر. تنسحب إرادة الحياة عينها على الكثير من التفاصيل التي أثبت من خلالها أهالي الغوطة أنهم صعاب المراس، يجيلون على أرضهم طرفاً بائساً مضطَّهداً، لكنهم أشداء، مقاوِمون، متفطنون إلى خصوبة تربتها، مدركون أن الأرض ليس من شأنها احتضان شهدائهم المدفونين فيها فحسب، بل هي من شأنها الإنبات أيضاً.
محاولات الاهتداء بالذات، عبر إبداع طرز ثورية من شأنها تجاوز الصعوبات، كانت حاضرة في المناطق السورية الثائرة كافة. ففي مدينة دير الزور مثلاً، شكّل الناشطون حركة سمّوها، “نشطاء”، أبدعوا من خلالها، عندما قُطعت وسائل الاتصال عن المدينة، فكرة “منشور الخميس”، رشقوها على الجدران رسماً وكتابةً من شأنهما نشر وعي ثوري مميز في كل يوم خميس، على رغم استهداف المارة من قناصة النظام، في الشارع الذي يوجد فيه مقرّ الحركة. آثر الناشطون كتابة الأخبار المستجدّة على الجدران، بما قد يمكّن الناس من مواكبة الأحداث، متحدّين بذلك سياسة التغييب والتجهيل. باتت الجدران الحرّة دفاترهم، والشوارع منابرهم، على رغم جدران المنابر الإعلامية “الرسمية” الكاذبة، ومكاتبها “الفخمة”. أما في درعا جنوباً، فقد أطلق الأهالي في وقت مضى من هذه السنة، مشروعاً سمّوه “هيئة الدفاع المدني”، أرادوا من خلاله أن يقولوا إن “الشعب يريد بناء النظام” بعدما سقط نظام الأسد في بعض مناطق المحافظة. تقوم تلك الهيئة، وفق الناشطين، بأعمال متعددة، منها تنظيف الشوارع وإصلاح شبكات المياه والكهرباء وتوفير المواد الغذائية، بإمكانات متواضعة.
لحظة عارية من الأقنعة
هاكم ملمحاً آخر مختلفاً من ملامح الاهتداء بالذات. أبطاله في هذه المرة، أشخاص ينتمون إلى حدَّين سوريَّين، متقابلَين، متنازعَين، متصارعَين، رافضَين رفضاً قاطعاً الحوار. أحدهما ينتمي إلى الشعب وثورته، والآخر ينتمي إلى النظام. لكن ثمة لحظة مرتجَلة مبدعة، محفوفة بأبلغ الدلالات، عارية من الأقنعة، انبثقت من حيث لا يدري أحد، فقوّضت ما كان يبدو، مطلقاً، مستحيل التقويض. إنها اللحظة نفسها التي تقدّم فيها مصطفى شدود، وهو ضابط من طرف النظام، في اتجاه الحد المقابل. وجهه للثائرين، وظهره لفرقته العسكرية وسلاحه الذي ألقاه على الأرض. ظهر مبتسماً لمَن “أعطوه الأمان”، بعدما التقاهم وجهاً لوجه، في فيديو صوّره ناشطون في منطقة المليحة بريف دمشق في الشهر السابع لعام 2013، وتناقلته وسائل الإعلام. كان يقول:”مانّا ضدكم. نحنا أهل. إنتو إخوتنا”. ثم أعلن بعدما طلب من مقاتليه التراجع، أنه “حزين على كل حجر يجري تهديمه”. وعندما سأله الثائرون:” إنت من وين من سوريا؟”، حاول التملص من التحديد، وأجاب: “من سوريا. أنا بقول من سوريا”. فردّ أحد الثائرين: “أنا من حماة”. أضاف شدود: “أنا بقول تطوّعت ودرست هندسة وكتّر خير هالدولة، وكتّر خيركم، إنتم اللي درّستوني”. وللحديث بقيّة.
في ما بعد، قُتل شدود. سرى في أوساط الثورة وقتذاك، ما يفيد بوقوف النظام وراء تصفيته. بطبيعة الحال، لا يمكن استبعاد قتل النظام الضابط المذكور، بعد حواره المهم مع الثائرين. حتى أنه، خشيةَ لقاءاتٍ سوريّة- سوريّة، ودّية وحميمة كهذه وغيرها مما يُحكى أنها تحصل دوماً من دون الإعلان عنها؛ باتت ثقة الإيرانيين و”حزب الله”، بالجنود والضباط النظاميين، تتلاشى. لذا يتولّون قيادة المعارك الدائرة على الأرض، وفق تحليلات وتسريبات لطالما تحدثت عن تخوّف أولئك الغزاة من انشقاق الجنود والضباط النظاميين، أو من تواصلهم مع الثوار، كونهم سوريين، وقد يشعر بعضهم أحياناً بالتعاطف حيال بلدهم وناس بلدهم.
* * *
في لحظة منعتقة من الزمن الأفقي، التقى فيها كلٌّ من حكمة العقل وجلال العاطفة؛ فكّر شدود في ما ليس مفكَّراً فيه. حاول التعرف عن قرب إلى أبناء بلده الذين طالما حاربهم عن بُعد، ولم يكن يعرف شيئاً عن ملامح وجوههم أو طيبة قلوبهم. التقت الوجوه والعيون، وهذا ربما يكون من أساسيات أي حوار إنساني. في الحوار الميداني العفوي الارتجاليّ هذا، تجلّت معانٍ جمالية، أخلاقية، وسياسية أيضاً، حيث عبّر الجميع عن أنفسهم بعفوية، فبدا الحوار هنا كأنه فنّ مفيد في بناء ما يثير النقاش والتفكير وجدَل الأخذ والعطاء. مع أن ذلك كله حصل وسط الخراب، وقوفاً بين أكوام الحجارة المهدَّمة، بلا طاولة ومقاعد، ومن دون قوارير ماء أو عصير، وورد صناعيّ ومايكروفونات. بدا الحوار فعّالاً ومنتجاً أكثر بما لا يقاس من الكثير من الاجتماعات والمؤتمرات والحوارات المفتعَلة، التي قد تحصل في قاعات مؤدلَجة مبرمَجة. يبدو أن المواقف غير المضبوطة أحياناً، أفضلها لتحديد شيء ما، بطريقة مضبوطة. كان الحوار محادثةً حرة. رسماً لصيرورة. مغادرةً لتوطّن وتمركز. لقد غادر ذلك الضابط النظاميّ، موقعه. و”تحرّك” في اتجاه “عالم آخر مختلف”، ليرى الأشياء من موقع مختلف ومن خلال وجهة نظر مختلفة. كان الحوار بمثابة اجتراح حلول. إن لم يرضكم هذا؛ فهذا، أو ذاك. إذا بذل جميع السوريين مثل هذا المجهود فسوف يتحقق التفاهم. في الحوار نفسه، ثمة مواجهة مع الذات، أو انقلاب للذات على نفسها. بدا ذلك مثلاً، في إفصاح الضابط النظامي عن شعوره بالحزن حيال كل حجر يتهدّم، إذ هو هنا، بدا كأنه لا يستثني نفسه من جرم التهديم، كونه مشاركاً فيه بشكل أو بآخر. يشعر بذنب وبتأنيب ضمير. بدا كمَن يشكو لأخوته همّاً يؤرقه. في المقابل، بدا الثوار أيضاً كمَن يريدون أن يشكوا لأخيهم همّاً، ويخبروه عن وجع لا يُحتمل يقاسونه منذ أعوام، متمنِّين أن يحسّ أخوهم بوجعهم وأن يتفهَّم عدالة قضيتهم وما يحلمون به.
* * *
ربما لا تستقيم المطابقة، في معنى ما، التي طالما نزعَ البعض إلى إجرائها، بين مصطفى شدود من جيش النظام، ويوسف الجادر الملقَّب بأبي فرات من “الجيش السوري الوطني الحر”، وهو قائد العملية العسكرية التي انتهت بتحرير مدرسة المشاة في حلب بتاريخ 15 كانون الأول 2012. حيث ظهر في فيديو يقول فيه عندما سُئل عن شعوره: “والله مزعوج لأن هذه الدبابات دباباتنا، وهذا العتاد عتادنا، وهدول العناصر إخوتنا. كل ما بشوف حدا مقتول منّا أو منهم بزعل”. لماذا لا تستقيم المطابقة؟ لأن شدود ينتمي إلى جيش “تهديمي”، آثر قتل الشعب حمايةً لطاغية ونظام. بينما انشقّ أبو فرات عن ذلك الجيش، وانضمّ إلى جيش “تحريريّ”. قاتلَ أبو فرات من أجل قضية عادلة. قضية شعب يريد الحرية والعيش الكريم. مع ذلك، ليس لنا إلا أن نعتبر كلا الضابطين، شهيداً، نبيلاً، جديراً.
ومَن قال إن الأقليات يحميها التكفير الأسدي؟!
في افتتاح أعمال الدورة الثامنة والستين للجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة بنيويورك 24 أيلول2013، قال أوباما من جملة ما قال، بعدما أفصح عن إدراكه بأنه “سيُتهم في بعض الأحيان بالنفاق”: إن “التسوية السياسية للأزمة في سوريا يجب أن تعالِج مخاوف الأقليات هناك”. سخرتُ آنذاك في سرّي، من ذلك النفاق الذي لا مجال للشك فيه. سخرتُ باعتباري امرأة محسوبة على إحدى هذه الأقليات، لا تؤمن بهوية ثابتة، مطلقة، خالصة، نهائية وكَمّية. جالت في عقلي تلك التظاهرة المطالِبة بإسقاط النظام في صيف 2012، بـ”ساحة النجمة” في مدينة السويداء (مرتع إحدى الأقليات الدينية)، التي كنتُ فيها مع مجموعة من الشابات والشباب. اثنان منهم، استشهدا في ما بعد. أحدهما اسمه صلاح صادق، مات في حلب إثر قصف النظام، صالة كان فيها برفقة أطفال، ذهب إليهم للمشاركة في برنامج دعم نفسي خاص بهم، والآخر اسمه مأمون نوفل، شاعر ومخرج سينمائي، قضى تحت التعذيب بعد اعتقاله نحو عام من الزمن. أسوة بآخرين من شباب المحافظة المعارِضين، لم يقتل الشابين المذكورين، تكفيريون إسلاميون، بل تكفيريون أسديون. في التظاهرة المذكورة، الموثّقة بصور وفيديوات، كان الهتاف الأبرز “بالروح بالدم نفديك يا درعا، يا حمص، يا حماة، يا إدلب”.
لقد أثبتت التجارب أن كل السياسات الخارجية حيال سوريا، خصوصاً السياسة الأميركية، كان لها دور بارز في نموّ التطرف الديني في سوريا، التي تُركت تتدمّر، حمايةً لأمن الاحتلال الإسرائيلي في المقام الأول. الاحتلال الذي قال أوباما في كلمته المشار إليها نفسها، في ما يخص أطفاله: “إن لهم الحق في الحياة”. طبعاً لهم الحق في الحياة، شأنهم شأن أطفال العالم جميعاً. نحن ننتمي إلى أولئك الذين يعزلون الأطفال، كل الأطفال، عن كل بشاعة لا يمكن أن تنتمي الطفولة إليها. بيد أننا في الآن عينه، ننحاز انحيازاً مطلقاً إلى أطفالنا، فلذات أكبادنا في فلسطين وسوريا تحديداً. هؤلاء لهم الحق المطلق في الحياة وفي كل شيء جميل. هم بالنسبة إلينا، أهمّ من أطفال إسرائيل وأطفال الزعماء والملوك والحكام والشيوخ والأمراء والرؤساء العملاء. أطفالنا الذين يسلبهم القتلة يومياً حقّهم المقدس في الحياة واللعب والدراسة وكل ما هو لائق بحياة ملوّنة.
* * *
ما ذُكر في الآنف من السطور، إنْ هو إلا جزء من كُلًّ ثوري يصعب حصره. ذُكر بقصد بيان الفارق بين الإشراق الثوري، والعتمة القاحلة التي يمثّلها لصوص الثورة والمتطفلون عليها والمتسلقون والمجرمون والتكفيريون كتنظيم “داعش” وأشباهه الخادمين للنظام الأسدي وحلفائه بشكل رئيسي، وكل التدخلات الخارجية التي تتنافس لتحديد مسار الثورة السورية.
من شأن الإشراق الثوري الدائم، تبديد العتمة تلك، والخلاص من الديكتاتوريتين العسكرية والدينية على السواء. فالكلمة المختصة بتحديد مصير الشعب السوري، لا بدّ أن تكون كلمة الشعب نفسه، مهما تكن ظواهر الأمور تشي بغير ذلك. مهما بدا أن التاريخ محكوم بـ”القانون” فقط، فإن لصيرورة الثورة، وللمصادفة و”العشوائية”، أو اللاواضح واللامفهوم، شأناً أيضاً في تحديد مساره. صحيح أن مآلات الثورة في سوريا، غير واضحة حتى الآن، إلا أن الثورة وضعت العالم أجمع أمام حتمية عدم عودة سوريا القهقرى، في معنى ما، وقطعية ذلك ويقينه، أن “سوريا الأسد” انتهت.
كاتبة سورية
النهار