وحين تنشدون أغانيكم بلا حب
ماهر الجنيدي
هو أول شريط مصوّر يتناول بتفاصيل جديدة، لكن متوقعة، تلك الحادثةَ التي ستسجّل في كتب التاريخ، ضمن صفحات الغرائب.
إذ يكاد يستحيل أن تعثر في كتب التاريخ على واقعة كهذه، يطلق فيها الحاكم سراح مجموعة معتقلين في سجونه من مواطنيه، مقابل إطلاق سراح أسرى من جنسية أخرى، يحتجزهم ثوّار قاموا ضدّه، وضد عسفه وتنكيله. ترى هل فعلها المماليك مثلاً في مصر أو سوريا؟ حسناً إن فعلوها، فهم لم يكونوا حينها مصريين ولا سوريين. هل فعلها بول بوت في كمبوديا؟ هل فعلها غيره؟ علينا أن نبحث في كتب التاريخ طويلاً.
إنها عملية التبادل التي تمّت بوساطة تركية قطرية، وشريط مصوّر يقدّمه وسيط يتحدث بطلاقة لغة تركية سليمة. هو تركي الجنسية على الغالب، رغم أنه يهتف مع الإيرانيين بعد إطلاق سراحهم: “اللهم صلّ على محمد وآل محمّد وعجّل فرجه”، ما يجعل الظنّ يتجه نحو أنه تركي، من أبناء القومية الأذربيجانية ذات المذهب الشيعي.
على أن انتماءه الشيعي، إن صحّ، لا يضيف ولا ينقص من أهميّة الشريط شيئاً. بل هي ملاحظة فقط، ونقطة تصبّ على الأرجح في صالح الوسيط، حين يستعين بمصوّر مرافق، اتّسمت كاميرته بكثير من الحيادية، فاستطاعت نقل المفارقة الكبرى.
حين خرج الإيرانيون من مكان احتجازهم، مشرقي الوجوه، سليمين فرحين، بدت على محيّاهم علائم الصحة والعافية، بيد أن هذه ليست الملاحظة الوحيدة. فثمّة لقطة أخرى لا تقلّ أهميتها، وهي حرارة وداعهم لأفراد الجيش الحر، المصافحات من شبابيك الحافلة الفاخرة، كلمات الوداع والمزاح والابتسامات، الأسلحة المنكسة إلى الأرض أو المتجهة إلى عكس جهة الحافلة.
تمضي الحافلة المدفّأة بالتأكيد، بزجاج واجهتها الذي يحمل آثار كسور، حاملة الإيرانيين المهللين الفرحين، لينزلوا تحت المطر إلى حيث يستقبلون.
فيما يبدأ المشهد في الطرف الآخر بدخول الوسيط إلى غرفةٍ يفترض أنها غرفة مدير السجن، حيث صورتا الأسدين، الأب والإبن، معلقتان خلف مكتبه على الجدار، فيما المعتقلون السوريون، نساء ورجالاً، بكدماتهم الجسدية والنفسية، ينتظرون سماع أسمائهم بعيون منكسرة ويتسلّمون هوياتهم الشخصية مشفوعة بعلامات القهر، وشرطي يحمل أوراقاً محبّرة بأسماء المعتقلين.
تتأمل في وجوههم، ودموعهم، وأبدانهم المرتجفة.. يخيّل إليك أنها وجوه تعرفها. تُرى هل رأيت هذا الطفل قبل أيام يلهو في زقاق حارتنا؟ ترى هل هي المرأة التي صادفتها يوماً عند بائع الخضار؟
يشدك المشهد.. تنتظر لحظة حريّتهم. لكنّ للسجّان رأياً آخر. إذ لا ينبغي أن يكفّ العنف المسلط عليهم هنا. فهذا يوم ثلجي عاصف مناسب جداً لبعض التنكيل. ملابسهم خفيفة، وسحنات وجوههم مصفرّة جائعة، علامات الإعياء والإرهاق بادية، ورجفة الأبدان لا تشفع لأحد. أقدام عارية إلا من آثار السجائر المطفأة فيها، تغري السجّان بالمزيد، فيوقفهم في ساحة السجن، يطلب منهم التباعد، للتراصف والترادف، كما في أي وقفة جماهيرية “كورية” النكهة. فليس للسوريين أن ينعموا بترف العيش خارج سجنهم من دون المذلّة، حتى لحظة إطلاقهم في صفقة تبادل سيسجلها التاريخ.
ولتكتمل غرائبية هذه اللوحة، لا بأس من هتاف ثلجيّ.. هو الضريبة الأخيرة قبل انطلاقهم خارج أسوار السجن، إلى الشارع الذي ازدحم بالمحرّرين.
تحت مرأى الوسيط، وبعض الإيرانيين الذين سبق تحريرهم، يطلب من الأسرى أن يترادفوا ويتراصفوا في أرتال، وأن يبتعدوا عن أجساد بعضهم خشية أن يمنحهم التقارب بعض الدفء.. ثم أن يهتفوا هتاف الأبدية: “بالروح بالدم نفديك يابشار”.. “الله سوريا وبشار وبس”.
هل يطرب الطاغية لهتاف كهذا؟ ربما. وربما يشعر بنشوة تنسيه بعض كوابيس اليقظة المحيطة به. لكنْ، هل قرأ يوماً قول جبران: “وحين تنشدون أغانيكم من غير حب.. فإنكم تصمون بها الأذان حتى وإن ضاهت ألحانها أنغام الملائكة”؟.