صفحات العالم

«ونريد أيضاً معارضة…»


نهلة الشهال

يصعب أن يجد المرء معارضة سياسية في بلد يتعرض لكارثة بحجم الكارثة السورية، أكثر تفاهة من «المجلس الوطني السوري» الذي يعقد اجتماعات «إستراتيجية» في الدوحة منذ أربعة أيام، رشح عنها حتى الآن تصريحات هي أقرب إلى الشعر (الرديء)، وأخبار عن صراعات غامضة الأسباب والخطوط. يقول أحدهم: تعالوا نجتمع في إعزاز ونعلن تشكيل القيادة الجديدة من هناك! وكأن مقاربة المأساة السورية يكتفي اليوم بمواقف شبه مسرحية، شبه رمزية. يقول آخر، نحتاج لشباب، فقد هرمنا، فيجري استحضار شبان وشابات إلى المنصة لخفض النسبة العمرية عن السبعين عاماً. وتُذكِّر الإعلانات عن النية في «توسيع القاعدة التمثيلية» للمجلس بالقرارات العائدة لنسب توزيع تشكيل «مجالس الشعب» أو «مجالس الأمة» في الأنظمة التي أدّعت يوماً الاشتراكية، التي كانت تخصص نسبة كذا للعمال والفلاحين ونسبة كيت للشبيبة، ثم تأتي طبعاً بعمالها وفلاحيها هي، بعد تنظيفهم من روث الأبقار وشحم الآلات، وشبيبتها وطلابها بعد غسيل أدمغتهم جيداً. سيصبحون 420 عضواً بدلاً من الـ222 الحاليين. وثمة أمل في أن يكون كل الخير في حوالي المئتين عضو جديد المضافين. وهناك من اقترح تخصيص ثلث المقاعد في الهيئة العامة «للحراك الثوري»، فهل يُفهم أن الثلثين الباقيين هم للحراك الرجعي، أم أن الثوري هو المسلح، ولكن اللفظ عيب فيستعاض عنه؟

الأبشع في أمر هذه المسخرة، هو إتاحة الفرصة للسلطة السورية، وهي في عز ارتكاباتها الإجرامية، كي تتنفس الصعداء، وتسخر من معارضة كهذه لا تغني من جوع. ومن جهة أخرى، فمعارضة كهذه تُطلق العنان للمجموعات المقاتلة الميدانية التي لا ترى أمامها معادِلاً سياسياً جديراً بالاعتبار، كي يتصرف كل فريق منها بما تمليه عليه تجربته أو أهواؤه أو ارتباطاته، كما لطغيان تبسيطية شعاراتية فجة. وقد كان العطب في تكوين المعارضات السورية ابتدائياً وتأسيسياً، أي أنه موضوعي، مرتبط أولاً بمستوى منخفض من تبلور الانصهار الوطني السوري في منطقة تشكلت تاريخياً حول المدينة/الدولة (هكذا كانت دمشق وحلب…). وهو مرتبط ثانياً بملامح التجربة السياسية للبلاد التي احتاجت دوماً، وحتى وصول الأسد الأب إلى السلطة، إلى موحِّد من خارجها. وحتى الأسد نفسه لم يفعل غير استبدال ذلك الموحِّد المُستحضَر إلى الداخل السوري ـ مثال عبد الناصر ووحدة 1958 ـ بعنصر خارجي يذهب هو إليه. وقد لعب لبنان طويلا هذا الدور، بما هو بلد يهم الغرب نسبياً لأسباب عديدة، وخصوصاً بما هو بلد كانت السلطة فيه متقاسَمة مع منظمة التحرير الفلسطينية، بكل ما تعنيه هذه الأخيرة من استحضار لدوائر عربية ودولية… ومع هذه وتلك وسواهما، تشكلت الشخصية السورية العامة حول قدر من التجريد (الذي يجده المرء في الكتابات السياسية السورية، وهي عالية النبرة الأدبية، ومختنقة بالتشديد على مبدئيات من طابع ذهني)، وقدر لا يقل عنه من «الذاتية» أو الشخصانية، التي بات المعارضون السوريون أنفسهم يتندرون بها. وباختصار، طغت هذه الملامح كلها، ومعها ما تراكم فوقها وما تعدَّل فيها بحكم المسار المرير مع نظام تسلطي، تراوحت ممارساته بين إدارة هذا المجتمع بمزيج من القمع العاري ومأسسة الوشاية ورهن الناس إلى تقديمات تصبح أشبه بالرشوة، يقبع فوقها جميعاً طربوش من الخطاب الشعبوي الفارغ الذي لم يعد يكترث بإقناع أي كان، ولكنه يتوسل التكرار، ليس لبلاهة (فحسب)، بل لأن ذلك من خصائص التأطير الفاشي «للشعب»، كما هو معروف.

ولكن للمجلس الوطني السوري أعطابه الخاصة به. فقد وُلد من رحم هجين، وضعت فيه كل من تركيا وقطر والسعودية وفرنسا وأميركا آمالها. وها هي اليوم، كل واحدة منها، تكتشف استحالة أن يلبي المولود المواصفات المطلوبة منه. وإن كانت القوى الإقليمية تتدبر أمرها مباشرة على الأرض، فتحتفظ برابط مع المجلس بينما تدعم مجموعة مسلحة أو أكثر، فإن واشنطن تتصرف كقوة عظمى: تصرح السيدة كلينتون أن الولايات المتحدة «تحاول تشكيل معارضة جديرة بالثقة»، وأنها اقترحت على اجتماع الدوحة «أسماء ومنظمات» (هكذا والله!)، فبعض المعارضين الحاليين «أوادم» (هي تقول أشخاص جيدين)، ولكنهم «لم يطأوا ارض سوريا منذ 30 أو 40 عاماً». لتخلص: «نريد معارضة تواجه بقوة محاولات المتطرفين لخطف الثورة السورية»! وهي محاولة لتنظيم دائرة أخرى إضافية للحرب الأهلية، هذه المرة بين القوى المعارِضة نفسها. والسيدة هنا تقدم الوصفة التي تناسب ذوقها، وهي تمتلك ذلك القدر من التعالي الاستعماري الأصيل الذي يجعلها تظن أن رغباتها أوامر، تنطبق على مسالك القوى القائمة وعلى مسارات التاريخ نفسه. وهذه مسخرة أخرى لا تقل عن مسخرة اجتماع الدوحة.

ولكن ما العمل، طالما الأعطاب السورية بنيوية، وطالما لا تدخل دولياً حاسماً بسبب الخلاف الحاد القائم في ذلك المستوى بين الأقطاب الدوليين (في عالم لم تدم الأحادية القطبية فيه أكثر من عقد من الزمن)، وبسبب انشغال الغرب بمصائبه، وأيضاً، (وثالثاً، مما لا يعني قلة في الأهمية ولكنه عامل خفي تعريفاً)، لأنه لا عجلة في الأمر، ويمكن لامتداد المأساة السورية أن تؤدي غرض تدمير كِلا المجتمع والمؤسسة الدولتية ـ قبل النظام، وهذا انتهى باعتراف الجميع بمن فيهم حلفاؤه ـ، والمطلوب هو إدارة هذا التدمير ورعايته حتى لا يفيض عن دائرة معقولة، في الوقت الراهن على الأقل.

إدراك الخصائص تلك، وتعيين اللحظة بقوة، قد يكونا معاً مقدمة ضرورية لتغليب «الاشتغال بالسياسة»، التي يشعر كل مراقب معني ومهتم بمصير سوريا أنها مفتقدة. لا يعني ذلك أنه لا توجد أصوات لأفراد أو هيئات تفعل، ولكنها تضيع وسط لجة العنف المنفلت من الجهات كافة، وأيضاً وسط مزايدات وتشتت مدهشين.

ولعل تمهيد الطريق إلى ذلك المطلوب يبدأ من تصفية الحساب مع بعض الأفكار الساذجة، ومنها أن إخوان سوريا يشبهون إخوان تركيا ومصر وتونس والمغرب، وهم جميعاً في السلطة وإن بدرجات وأشكال متنوعة، ولا طرف منهم يقلق الغرب، إن لم يكن العكس صحيح. وأما درجة إقلاقهم لأطراف أخرى في مجتمعاتهم فهي قابلة للتفاوض والتسوية، أي للعلاج. ولكن، وفي كافة تلك الحالات، خاضت حركات الإخوان، أو الصيغ المنبثقة عنها، تجاربها السياسية المديدة داخل بلدانها، متحملة عبء قمع فظيع أحياناً (كما بالنسبة للنهضة التونسية التي دخل منها إلى سجون بن علي ثلاثون ألف مناضل، وكذلك ولو بدرجة أقل في مصر). وهي بنَتْ في بلدانها شبكات اجتماعية متجذرة في الواقع اليومي للناس، تستند إليها بقوة، وهي كسبت تجربة متراكمة في التعامل مع القوى الأخرى ومع المجتمع نفسه، ومع السلطة نفسها، تلك القائمة، أو مع المفهوم بذاته. بينما جرى اجتثاث إخوان سوريا ـ وهو تنظيم ضعيف أصلاً بالمقارنة مع نظرائه هؤلاء ـ بالكامل، وعاشوا في الشتات لعقود متلاحقة، ما ترك بصمته على تياراتهم المختلفة، علاوة على برانيتهم جميعاً. وفي سياق المسار السوري الحالي، المصطخب والدموي، تعجز حركة «الإخوان» عن احتواء ـ ناهيك بإلغاء ـ المجموعات «الجهادية» الإسلامية، المتنوعة هي الأخرى، والتي اكتسب بعضها تجربته السياسية والقتالية في العراق أو في لبنان. وهي لا تفعل غير التملق إليها، ولن يمكنها توفير الضمانات التي تطلبها السيدة كلينتون (sorry)،لا سيما أن الذي بات طاغياً في سوريا هو القتال العسكري الذي تفلح فيه تلك المجموعات أكثر من «الإخوان» المترددين حياله.

كما لا يمكن التساهل حيال موقف آخر ساذج يرتبك أمام ارتكابات بعض تلك المجموعات المسلحة، التي تقتل وتغتصب وتنهب بمقدار ما تفعل مجموعات الشبيحة التابعة للنظام. ولكن، ولأنها معارِضة، فهي تُجْمل تحت عنوان القوى الثورية! ولن يبدأ كلام في السياسة قبل التجرؤ على توصيفها بما تستحق. وليس في هذا تنازل للنظام، كما تظن فكرة أخرى ساذجة، بل هو أحد الشروط الضرورية للتمكن حقاً من التخلص منه. إلا أن مؤتمر الدوحة بعيد عن هذه الانشغالات. وهو يرتب بميزان صائغ، حصص ونسب الجهات وضمانات لهذا وذاك. من أجل ماذا؟ الله أعلم!

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى