يورغن هابرماس لا يوصد الباب دون وعود الحداثة غير المستوفاة/ ميكاييل فوسيل
في أواخر عقد 1930، كان يورغن هابرماس بلغ نحو العاشرة، وفي ملعب مدرسة ببلدة غوميرباش على مقربة من دوسيلدورف، اختبر الولد المصاب بالتواء في عظمة فكه الأعلى عسر مخاطبة زملائه، وإفهامهم مراده والرد عليه. وولدت فلسفة المداولة العامة ربما من اختبار هذا العسر. فالتفكير ينشأ غالباً عما يعترض النفس وبداهتها التلقائية ويكتب هابرماس: «حين يمتنع التواصل ينتبه الناس الى حقيقة عالم وسيط، يغرب عن البال في الأحوال السائرة». وقبل شيوع الهشاشة موضوعاً يتناوله النظر، حملت التجربة اليومية الفيلسوف الالماني على التفكير في تعثر التفاهم وما يترتب عليه من سخرية وتعنت.
ويقتضي فهم أسلوب هابرماس تصور جهود ولد غوميرباش ومكابدته من أجل اجراء محادثة عادية. وأعماله تكاد أن تكون عمارة كتابية رفعت للدلالة على هذه الجهود. فمسائل ثانوية لا تستوقف الاهتمام تحتل معالجتها كتباً كاملة. ومن هذه المسائل: «كيف يحصل التفاهم بين المتخاطبين؟»، «متى يجمع المتحادثون على حجة؟»، «ما هي القواعد التي ينبغي إقرارها قبل مباشرة مطارحة؟». وتبدو هذه المسائل نافلة ولا فائدة منها لمن يستعجلون بلوغ الحق والخير وإحقاقهما. وطعن كثيرون في تطويل هابرماس احتجاجاته وبراهينه، وفي استطراداته الصعبة وحرصه على الإجابة عن التحفظات والملاحظات كلها. ورد جيل دولوز على تواضع هابرماس بالقول: منذ متى ترمي الفلسفة الى التواصل؟ ولا ريب في أن كتبَ هابرماس، أو مصنفاته، لا تتصدى للمسائل التي تعالجها إلا بعد مقدمات طويلة، وتمهيد بطيء، قريبين من التأتأة. فالفلسفة إذا لم تمهد بتعريف لغتها ومصطلحاتها تقع في التعسف من غير وقاية ولا تحوط.
وهابرماس، المولود في 1929، نشأ تحت حكم الرايخ الثالث، النازي، واستبداده وعنفه، وشب وسط الصلبان المعقوفة، والأناشيد الحربية، وترددت في آذان الأطفال أصداء إيديولوجية عنصرية. وعلى شاكلة المراهقين من جيله، ألزم الانخراط في صفوف الشبيبة الهتلرية حيث يحوم الشك على أضعف إعاقة، وتنسب إلى قصد مخرب. وحظي الفتى بـ «نعمة الولادة المتأخرة»، فلم تُمكنه سنه من الاشتراك الفاعل في الجرائم التي ارتكبتها النازية. ولكنه لم يبرئ نفسه من هذه الجرائم التي يرى، الى اليوم، أنها أثقل تحد على الشعب الألماني أن يضطلع به. وخرجت الفلسفة الألمانية من محنة النازية، في 1945، أنقاضاً. فمعظم الأكاديميين المبرزين تواطأوا مع النظام. ومثال المرشد المنبري، وهو مثال جرماني رفيع، أظهر رابطته الحميمة بأسطورة الفوهرر القائد السياسي، وبكراهية الديموقراطية.
وفي هذا الحقل كذلك، لم يكن بد (على الألمان) من تعلم الكلام والحوار من جديد. وبادر هابرماس، في 1953 ولم يكن حينها أكمل دراسته الجامعية، الى كتابة مقال في «فرانكفورتر ألغيماينه تسايتونغ»، وسمه بعنوان «التفكير مع هايدغير وعلى خلاف هايدغير». وبعد إبداء الإعجاب بصاحب «الكائن والزمان» وسعيه في وصف فرادة الوجود الإنساني، ينتقد هابرماس التوسل بلغة مستغلقة تزعم تناول «الأصل الأول». وهايدغير هو ذريعة الى انتقاد النخبوية الثقافية والنتيجة المترتبة حتماً عليها، احتقار كبار الجامعيين المساواة الديموقراطية. والثقافة الجرمانية لا تتحمل المسؤولية عن النازية، على نحو مثالية هيغيل أو إرادة السلطان في فلسفة نيتشه. ولكن هذه الثقافة، أو أعلامها، لم تسعف على صد بربرية التاريخ أو على مقاومتها. ودعت الحال هذه هابرماس الى نظر جديد في المسائل الأولى كلها.
ولم يضطر الفيلسوف المبتدئ الى البدء من الصفر. ففي منتصف الخمسينات من القرن الماضي، التحق هابرماس بمعهد البحث الاجتماعي في فرانكفورت حيث لم يلبث أن عمل مساعداً لأدورنو قبل أن يخلفه على كرسيه وتدريسه. وأدورنو هو أحد وجوه مدرسة فرانكفورت، عاد إلى ألمانيا، بلده الأول من الولايات المتحدة التي سافر إليها لاجئاً وهارباً من اضطهاد النازية المثقفين واليهود. وهؤلاء القائدون تولوا فحص الضمير الفلسفي الذي نشده هابرماس منذ خطوه الأول. وبديلاً من المضي على التفكير كما لو أن شيئاً لم يحصل، باشر أمثال أدورنو التقصي عن ثغرات الحاضر في ضوء البحوث الاجتماعية ودراساتها. فقرأ ماركس مستعيناً بنظارات كانط. وكتب كتابه الأول («دائرة العلانية العمومية والمشتركة»، 1962) في نقد الرأسمالية نقداً اجتماعياً، وجمع تناول ماركس إلى معايير الأنوار الجامعة والعامة (كانط).
ولم يسلك مسلك التنديد بالأصول المبدئية، مثل الحرية أو حقوق الإنسان، بل ماشى البورجوازية، وحمل على محمل الجد مقالاتها في الأصول وعموميتها الكونية. واقتفى أثر لغة الأنوار فقارن بين ما «تقوله» النخبة البورجوازية حين ترفع من شأن دائرة العلانية العمومية ومساواتها، وبين ما «تفعله» حين تصادر هذه الدائرة لمصلحتها وحدها. وفي زمن ينحط فيه مطلب العلانية العمومية إلى إعلان دعاية، وتتردى حرية الرأي الى وسائط تواصل اجتماعية، يرفض هابرماس التنديد بمجتمع المشاهد والفرجة عليها. ويقدم على التنديد مقارعة التذرع التجاري بأركان الليبرالية وأسسها.
ولم يرض نهج التعويل على «وعود الحداثة المنكوثة» (أو «غير الموفاة») المثقفين الفرنسيين المعاصرين والبارزين في عقد 1960. وهو صب الزيت على النار حين عمد الى انتقاد التشكيك الذي انتهجته الـ «فرينش ثيوري» (النظرية الفرنسية) قبل تسميتها في الولايات المتحدة بهذا الاسم. وهو نعى على فوكو ودريدا وليوتار ميولاً محافظة بذريعة إعلانهم انتساباً الى نيتشه، وهو أمسى موضع ارتياب في ألمانيا غداة الحرب. وهذا ربما جواب من اتهمه الفرنسيون بتصفية تراث الماركسية النقدي عن التهمة. والحق أن هابرماس سعى في مصالحة اليسار والليبرالية لعلة تخص الطرف الألماني. فالبورجوازية الألمانية مالت زمناً طويلاً الى المحافظة، وقدمت هذا الميل على الليبرالية السياسية. وبرز هذا الترتيب غداة الحرب الثانية، فأغفلت دورها في بلوغ هتلر السلطة، ونسبت المسؤولية عن المأساة الى انحرافات جمهورية فايمار التقدمية والمتحررة.
ورد هابرماس على هذه النزعات بإعلاء مكانة التراث الذي شيدته جمهورية فايمار، وهي أول تجربة ديموقراطية في التاريخ الألماني. ونهجه في هذه المسألة هو نهجه في عامة في الأمور: العودة الى تحريك وعود التحرر التي رُجع عنها عوض التذرع بإخفاقات الحداثة الى التنصل منها ورفع لواء «ما بعد الحداثة». وهذا نهجه في انخراطه السياسي. وفي ذروة الأزمة اليونانية، أنحى باللوم الحاد على شره الحكومة الألمانية وأطماعها، ولكنه امتنع من التشكيك في المنطق الاتحادي الأوروبي. فالاتحاد هو في نظر هابرماس أول مثال تاريخي لمواطنة جامعة وغير مقيدة بالحدود الوطنية (القومية)، ومن طريقها حصّل الأوروبيون حقوقاً مستقلة عن انتمائهم الى دولة. ومحاولة تخطي حدود الدولة– الأمة ثمينة في نظر فيلسوف يرى أن التواصل بين البشر لا يقيده قيد جغرافي. وعلى رغم الإخفاقات والعثرات والوقوع في فخ الماضي، لا يشك هابرماس في جدارة المثال الاتحادي، واضطلاعه بالرد على النزعات القومية المتعصبة التي لم يختبر شعب مقدار ما خبره الشعب الألماني من فظاعاتها ومهاويها.
وهابرماس مفكر لم يعرف اليأس طريقاً إلى عقله أو صدره. ويعود ذلك إلى فكرة فلسفته المتصدرة: تداول الكلام اليومي يدل على حاضنة ما سماه الفلاسفة المحدثون «العقل». وتجربة التداول اليومية متنازعة وكثيرة العثرات.
ولكن ماذا يحصل حين أعتب على أحد من الناس أو حين يعصف بي الغضب؟ في هذه الأحوال ومثلها أتوجه (بكلامي) إلى من أعاتبه أو من أغضبني، وأناشده أن يفهمني، وأفترض إذاً أن ثمة حيزاً يسعنا فيه تسوية خلافنا سلماً. ويصف هابرماس هذا الحيز بـ «التواصلي»، وهو ليس غير الطاقة على استبدال العنف بالاحتجاج. وإخفاقاتها المرة بعد المرة ليست حجة تدينها وتبطلها، بل تقتصر على إظهار هشاشتها وضعفها. ومن غير الافتراض أن التفاهم المتبادل هو أفق أفعالنا (التخاطبية والإعمالية)، لما بادرنا إلى أمر ولما تلفظنا ببنت شفة حتى.
وإرساء «العقل التواصلي» على اللغة والفعل اليوميين، وليس على الأفكار المجردة، هو مدار كتب هابرماس الكبيرة :«نظرية الفعل التواصلي»، (1981) ، و «الحق والديموقراطية» (1992)، ويعد الكتابان فوق 1500 صفحة. وقد يتساءل القارئ الذي يتصفح الخلاصات مباشرة: هل يقتضي تسويغ النظام البرلماني الألماني والديموقراطية التداولية والفيديرالية هذا العدد من الصفحات؟ وهل ينتهي تواضع هابرماس إلى هذا الصدوع الساذج بما هو قائم؟
والجواب يتعلق بما ينتظره القارئ من الفلسفة. فمن ينتظر منها مثالاً لمجتمع يقوم بديلاً من المجتمع الراهن، قد يحكم في عمل هابرماز بالثرثرة. وأما من يحسب أن المستقبل هو وليد احتمالات كامنة في الحاضر، فالأرجح أن يقدر طاقة فكره النقدية. ولا ريب في أن ثمة هابرمازيين يمينيين يدعون الى التخفف من المثال الثوري، ويروجون لليبرالية. وهؤلاء، لا يسعهم إغفال الحرص الذي يبديه الفيلسوف الفراكفورتي على إبراز ما يحول دون المداولة الديموقراطية المجردة. والعقل التواصلي، وهي إنجاز الأنوار الكبير، ليس نقيض الأهواء الإنسانية، وخصمه هو العقل الوسائلي. فهذا يختصر عالم الحياة الى نظام يسوغ الوسائل النافعة والحسابية كلها، وينكر الغايات. وركنا العقل الوسائلي، اليوم، هما السلطة الإدارية والمال – الملك (المال المرجع والقيمة والمعيار). وآن يستتب لهما الأمر يحل معيار العائد أو المردود محل المناقشة الديموقراطية، وتتحالف الدولة والسوق، ويفرضان معاييرهما على المجتمع المدني، ويتحلل العقل في الحسابات، على خلاف «وعود الحداثة»، هي التي ولدت السموم وعلاجها معاً.
* أستاذ الفلسفة في مدرسة بوليتيكنيك، عن «لوبس» الفرنسية، 22/2/2018، إعداد منال نحاس
الحياة