المأساة السورية وسراب الحل السياسي/ د. مدى الفاتح
■ الملاحظ هو ذلك الإفراط في استخدام مصطلح «الحل السياسي» كخيار وحيد ومفروض على الثورة السورية. العبارة التي تحوي في داخلها معاني متعلقة بالتسوية والتفاوض بدت وكأنها الحل السحري للقضية التي أرقت تداعياتها المختلفة الأسرة الدولية.
اعتمد مروجو ذلك المصطلح الضبابي على المعاني والكلمات التي لا يرفضها أحد، حيث يتفق جميع العقلاء على ترجيح كفة الحل السياسي والدبلوماسي على كفة متابعة الحرب والقتال. لقد فات على هؤلاء أن الحل السياسي البراق الذي يدعون إليه، والذي قد يكون مفيداً في حالة النزاعات التقليدية بين طرفين متقابلين، أو حتى دولتين بحيث يوفّر في إيجابية الكثير من المال والدماء، فاتهم أن ذلك الحل بطريقته التقليدية لا يمكن أن يكون واقعياً في حالة الثورة السورية.
إن أهم أركان الحل السياسي هي إثبات الاحترام بين جميع الأطراف ومطالبتها من قبل الوسطاء المحايدين بالاعتذار عن الأخطاء التي تمت بقصد أو بدون قصد خلال فترة الصراع، ثم مناقشة الأمور بروية، بحيث يحصل كل طرف على مطالبه العادلة أو على الجزء الأهم منها وهكذا تتم تسوية وإنهاء النزاع أو الصراع.
هل يمكن أن يتم تطبيق ذلك في الحالة السورية بين الأطراف المتصارعة؟ الطريف هنا أن أغلب، إن لم أقل جميع، الأطراف التي «تحض» السوريين على التسوية السياسية، تعلم علم اليقين أن الشرط الأول للحل السياسي، أي التعامل باحترام مع أحد أقطاب الأزمة، وهو النظام السوري، لا يمكن أن يتوفر عند أي ممثل للمعارضة، ولا حتى عند الداعمين لمبدأ الحل التفاوضي، وعلى رأسهم الولايات المتحدة التي أعلنت منذ سنوات طويلة أن بشار الأسد ما عاد رئيساً شرعياً.
كيف يمكن احترام قيادات النظام الذي قتل بكل الصور المعروفة مادياً ومعنوياً الملايين من الشعب السوري، ودمر بأنانية البلاد التي يدعي الدفاع عنها؟
أما وجهة النظر الخارجية التي تدعو بشدة لتحكيم الحل السياسي فتنقسم إلى قسمين: الأول المناصر منذ البداية للنظام السوري تحت كل الظروف، والذي تدخل عبر السنين ليصبح جزءاً من المشكلة. هذا القسم لا يرى في الحل السياسي إلا وسيلة لشرعنة السلطة الحاكمة التي برأيه جاءت بشكل ديمقراطي وعبر انتخابات.
القسم الثاني الذي ناصر لبعض الوقت معسكر الثوار تبدو طروحاته المتعلقة بالحل السياسي غريبة ومتناقضة، فمن ناحية هو لا يعترف بشرعية نظام الأسد الكاملة، لكنه يرى في الوقت ذاته ضرورة وجوده خلال مرحلة انتقالية من أجل تمرير السلطة بشكل ديمقراطي لحكومة جديدة، قد يكون بعض أقطاب النظام الحالي جزءاً منها..!
النظرية المشبوهة التي يتم الترويج لها هذه الأيام في بعض الأوساط السياسية تقول، إن النظام في الغالب استفاد من أخطائه، وإنه حتى إن عاد للحكم فإنه لن يقوم بما كان يقوم به في السابق من ممارسات، وإن نسخته الجديدة لن تكون كما الأولى شمولية ومغلقة. هي نظرية مشبوهة لأن أنصارها يعلمون قبل غيرهم أن الاحتمال الأكبر هو أن «تعود ديمة لحالتها القديمة»، وأن يستفيد النظام من المساندة والدعم الدوليين من أجل إحكام الخناق على السوريين، والعمل على ألا تتكرر مأساة الثورة مرة أخرى، عبر إحكام السيطرة على كل منافذ التنفس الشعبية والمدنية. الاحتمال وارد ولا يمكن لمتابع جاد أن يقلل منه، خاصة أنه لم تصدر عن النظام أي بادرة لإثبات حسن النية أو للاعتذار عن أي ممارسة سابقة.
في الوقت ذاته فإن إيماننا بعبثية الحل السياسي يجب ألا تدفعنا للتشكيك في كل المفاوضين وفي نواياهم (رغم أن بعضهم كان يرتبط حتى وقت قريب بعلاقات مع المعسكر الأسدي). يمكن أن نتفهم أن هناك من يرى أن الأولوية هي العمل السياسي من أجل حقن الدماء، ومن أجل عودة النازحين الذين بلغ عددهم ما يزيد في أقل تقدير عن 11 مليون بين نازح ولاجئ.
أولئك يقولون بشكل غير مباشر إن المعادلة يمكن قراءتها كالتالي: في حال القبول بفكرة «إعادة تدوير» النظام فإنه سيظل هناك احتمال لتغيره ولتوفير أرواح السوريين، أو على الأقل توفير أعداد كبيرة منهم، أما في حالة الإصرار على متابعة المعركة والنضال المسلّح فإنه في الغالب سيقتل عدد أكبر من المدنيين في ظل استماتة النظام وحلفائه، واستخدامهم كل سلاح ممكن أو متوفر من جهة وتخاذل حلفاء المعارضة وتحولهم لداعمين صوتيين من جهة أخرى وظهور جماعة فوضوية كتنظيم الدولة الإسلامية من جهة ثالثة.
يمكن تلخيص هذه الرؤية في عبارة بائسة: احتمال الموت هو أفضل بأي حال من انتظار الموت المحقق.. على الأرض يقاتل الثوار في جبهات مختلفة ضد النظام والقوى الإيرانية المساندة من جهة وضد روسيا التي أثبتت أنها لا تعترف بأي قوى مسلحة معتدلة من جهة أخرى، ثم ضد الطرف ذي الأجندة المريبة، تنظيم الدولة، صاحب النظرة الفوضوية التي ترى أن قتال الجماعات الإسلامية التي تسيطر على المشهد العسكري، والتي يختلف معها في تفسيرها للإسلام، أولى من قتال النظام وحلفائه، مما يجعله بدل أن يكون مشتركاً في النضال من أجل التحرر، عضواً أصيلاً ومهماً في التحالف المقابل، لدرجة أن أولئك أيضاً باتوا لا يجعلون من استهداف معاقله الأساسية أولوية.
هذا الوضع المأساوي دفع بعض الثوار لتجريب الخيار السياسي، لكن المشكلة الجديدة التي ظهرت هي أنه لا توجد نافذة واحدة لهذا الحل حيث يحمل كل طرف من الأطراف الخارجية تعريفاً خاصاً به لخيار التسوية السياسية. على سبيل المثال فالمفاوضون الذين تقبل بهم روسيا غير مرحب بهم، أو بأغلبهم، من جهة الثوار. إقليميا تنتقد إيران اجتماعات الرياض للجماعات المعتدلة وتدخل روسيا المجتمع الدولي في متاهة فلسفية لإعادة تعريف مصطلح الاعتدال، في حين يعتبر النظام السوري أن السعودية نفسها دولة ذات نظام داعم للإرهاب.
من هنا جاء الاستهداف الروسي لقائد «جيش الإسلام» زهران علوش المحسوب ضمن المعتدلين والقريب من السعودية، ما شكّل ضربة قوية لدعاية التعاون مع القابلين لمبدأ الحل السياسي. أوضح الروس بهذا الإجراء أن مجرد القبول بطاولة المفاوضات ليس الأهم بالنسبة لهم، وأنهم قد تجاوزوا مرحلة الدعوة للحل السياسي إلى ما هو أبعد. المعتدل عندهم هو من يقبل برؤيتهم للحل أي إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل اندلاع الأحداث في 2011 والمعارض عندهم هو من ينتظر في صبر نتيجة الانتخابات المقبلة.
فوضوية المشهد ومأساويته لا تتجلى فقط في استهداف علوش أو غيره من الرموز التي يهتم بها الإعلام، والتي تحظى بتغطيات واسعة، فكل ذلك ليس في نظري سوى مجرد حلقة من حلقات مسلسل الدم المتمددة. اغتيال علوش يمكن فهمه على أساس أنه استهداف لمن يعتبره التحالف الأسدي أحد أعدائه، لكن الذي لا يمكن بأي حال تبريره ولا تفهمه هو ما يتزامن مع ذلك من قصف متعمد للمنشآت المدنية كالقصف الذي تعرض له المستشفى الوحيد لعلاج حالات الولادة المتعسرة في مدينة إعزاز وغيره من المنشآت التي تستهدف تقريباً بشكل يومي.
الغربيون بارعون في تصدير العبارات ذات الوجهين لنا. هم في الغالب حين يدفعونك للتفاوض يدفعونك ضمنياً للتنازل لأن علم التفاوض نفسه مبني عندهم على تقديم التنازلات. المشكلة أن الذي يحدث غالباً ليس التنازلات المتبادلة ولكنه تنازل الطرف الأضعف الذي يقدم كل شيء للطرف الآخر الأقوى. تابعنا ذلك مع الفلسطينيين في أوسلو ونتابع المشاهد ذاته الآن مع السوريين في جنيف وموسكو ونيويورك وغيرها من محطات السراب التفاوضي.
٭ كاتب سوداني
القدس العربي