كما هو الموت كذلك هي الحياة/ حسن داوود
الأخوة الثلاثة، بلبل وحسين وفاطمة، يحملون أباهم في رحلة شبيهة بتلك التي نٌقلت فيها تلك الأم العجوز في رواية وليم فولكنر «فيما أرقد محتضرة». الأم العجوز والأب عبد اللطيف، في الروايتين، يُحملان ميّتين ليدفنا في المكان البعيد الذي ينبغي لكل منهما أن يُوارى فيه.
إنها الرحلة إذن، تلك التي ستُرهق مسافتُها الطويلة جثّةَ المرأة العجوز، التي ستزداد فيها جثة عبد اللطيف تحلّلا مع تقدّم الوقت وتطاول المسافة. تلك الرحلة، في ما خصّ هذا الأخير، ستستغرق أيّاما في الميكروباص الذي يملكه أحد الأخوة الثلاثة، حسين، الذي وافق أخاه على تنفيذ وصية الوالد بأن يدفن في قبر شقيقته التي كانت قضت انتحارا بحرق نفسها. وسيمرّ الميكروباص، حامل الجثّة وأبناء صاحبها، على أراض توزّعها مسلّحون مختلفون كانوا، عند كلّ حاجز، يعملون بعكس ما يقتضيه الوقت الممعن نهشا في الجسد الميّت. فبدلا من أن يستعجل هؤلاء إجراءاتهم في إخلاء الطريق، يروحون في كلّ من حواجزهم يضيفون إلى الوقت فاصلا إضافيا يقتطعونه لهم، ليمارسوا فرض سلطتهم، هكذا على نحو ما يُفتح الهلالان في سطر الكتابة أو صفحتها. وإذ تكون الجثّة، أو حالة الجثّة، هي القياس الذي يُستدّل به على انقضاء الوقت، كان على خالد خليفة، كاتب الرواية، أن يُمعن في إفسادها إلى حدّ أنّ وصفه لها، في صفحات الرواية الأخيرة، بدا موغلا في التحلّل إلى حدّ إبعاد نظر قارئه عما تستكمل به تلك السطور.
أما الرحلة، وهي هنا بين دمشق وأحد أطراف حلب، فتذكّر برواية «الطريق» لكورماك ماكارثي. مثلما هي الجثة فاسدة ومتعفّنة، كذلك هي الأرض. لقد أمست دمارا وخرابا لم يبق فيها إلا البيوت المهدومة والقرى الخالية ممن كانوا ساكنيها. وإذ لم يبق في «طريق» ماكارثي إلا أنفار قليلون ساعون في البحث عما يقتاتون به، تبدو أرض خالد خليفة مسكونة بمسلحين كثيرين قطّعوها أجزاء رافعين بيارقهم المرفرفة فوق أنقاضها. وما يجري بين هذه الأجزاء هو الموت الذي لا يبدو أن استشراءه ينقص أعداد العسكريين أو يضعف سلطتهم.
ذلك التضامن الذي بين الأخوة المجتمعين على تنفيذ وصيّة والدهم، لن يخّفف من إحباط كلّ منهم وفشل حياته، كما لن يكسر جليد التباعد بينهم. ذاك أن ذكريات الطفولة، التي جمعتهم معا في بيت واحد وفي حياة مشتركة، ليست كافية لإبقاء ذلك التضامن قائما حتى نهاية الرحلة. ففي اليوم قبل الأخير تشاجر الأخوان، بلبل وحسين، وتلاكما. كانت تستعاد في الرواية مشاهد من الحياة الماضية لكلّ منهم، كما لعيشهم معا، ذاك الذي لم يبق منه الكثير في ذاكرتهم. هم، الثلاثة، خاسرون، إما بسبب الجبن أو بسبب الضياع أو عدم القدرة على سوق حياتهم. وحده الأب، عبد اللطيف، كان مثلما أراد أن يكون. في الستينيات من عمره قرّر أن يبدأ حياة جديدة استعاد معها حيوية الشباب وحماسته. شارك في التظاهرات التي كان الكثيرون، ومنهم ابنه بلبل، لا يجرؤون على المسير فيها. كان الأب قائدا هناك في التظاهرات، يصل إليها أولا ولا يغادرها إلا بعد أن ينفضّ المتظاهرون جميعهم. كما أنه بدأ عشقا جديدا في ذاك العمر المتأخّر، وهذا ما عجز عنه بلبل الذي يبدو كأنه راوية وقائع الرحلة تلك، على الرغم من كون الرواية جارية على غير لسانه.
تضمّ الرواية، إلى الثلاثة وأبيهم الميّت، آخرين كثيرين يحضرون باسترجاع كل من الثلاثة محطّات ماضيه. هم حاملون لثقل ماضيهم لا يلبث أحدهم، كلما أتاه السهو بين محطّتين من تلك الطريق، أن يعود إلى الماضي مكملا به رسم شخصيّته. أما الأب فيظهر مزدوجا، حاضرا في شخصيّتين، فبينما هو متألّق هناك في حياته، خصوصا في الجزء الأخير منها، يظهر بالمقابل جثّة آخذة في التعفّن والاهتراء، هكذا كأنها، أو كأنه بها، يصل إلى الدرك الأخير للتحلّل، المقابل للانهيار التراجيدي الأخير الذي يتساقط إليه أبطال الروايات الأحياء.
هو حاضر في الرواية حضورا مزدوجا، مثل بطلين يتشاركان بطولة مأساة ما. وهو، بسبب ذلك، استحوذ على الرواية فأبقى مآسي أبناءه الثلاثة خالية من القوّة. لم يبدُ مؤثّرا الخرس المفاجئ الذي أصاب ابنته فاطمة، إضافة إلى أنه لم يكن مقنعا إذ أنه وقع هكذا كأنه لحظة خطأ أو لحظة استعجال في تقرير مصائر الشخصيّات. ومثلما سطا مصير الأب على مصير ابنته، نرى تلك السطوة وقد أصابت بلبل، وكذلك رحيل حسين في سبيله موحيا بذلك أن عودة الأخوّة بين الثلاثة انتهت، إلى غير رجعة، بإيداع الأب في قبره.
ربما كانت حال سوريا هي التي تتيح اقتراب الواقعي من المتخيَّل حتى ليبدو تنقلنا بينهما، فيما نحن نقلّب صفحات الرواية، سهلا بلا عوائق. كل حادثة، كلّ تفصيل صغير يمكن أخذه على كلّ من ذينك الاحتمالين فيكون حقيقيا تبعا لما نعرفه عما يجري في سوريا، وخياليا كأنه من وقائع زمن قيامي، ذاك الذي تنتسب إليه روايتا فولكنر وماكارثي المذكورتان أعلاه.
رواية خليفة زيادة «الموت عمل شاق» صدرت عن دار نوفل- هاشيت أنطوان في 151 صفحة، 2016.
٭ روائي لبناني
القدس العربي