لعله أهمّ أعماله في الفلسفة: دفاع صادق جلال العظم عن المادية والتاريخ
إلى جانب أعماله المعروفة التي حظيت بانتشار واسع، وتحديداً «نقد الفكر الديني»، «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، «في الحب والحب العذري»، و«ما بعد ذهنية التجريم»؛ كان المفكر السوري الراحل صادق جلال العظم (1934ـ2016) قد أصدر، في سنة 1990، كتاباً بعنوان «دفاعاً عن المادية والتاريخ ـ مداخلة نقدية مقاربة في تاريخ الفلسفة المعاصرة»، لعله الأهمّ بين أعماله في ميدان الفلسفة.
وكانت فكرة الكتاب قد انبثقت من حوار مطوّل بين العظم وعفيف قيصر، نشرته مجلة «دراسات عربية» في شتاء 1985، حول تاريخ الفلسفة ومشكلاتها. لكن المادة لم تكن من طراز الحوارات المألوفة، لأنّ العظم وقيصر تحضرا له جيداً، واتفقا على مفاصله، وشاءا له أن يكون جديراً باسمه، كدفاع عن المادية والتاريخ. وبعد ردود أفعال إيجابية واسعة النطاق، اتفق الرجلان على المضي في المشروع والتفكير بتغطية عدد إضافي من مشكلات الفلسفة المعاصرة، وتياراتها ومدارسها، من وجهة النقد أسوة بالعرض، فكان الكتاب هذا.
ورسالة الكتاب، كما يشير محمد دكروب في التقديم، تنهض على قراءة نقدية لنصوص عدد من الفلاسفة والمفكرين أتباع النزعة المادية، ومناقشتهم من الموقع نفسه، أي احتكام العظم إلى النظرة التاريخية اساساً، في محاولة جدية لكشف النزوعات المثالية في فكر هؤلاء المفكرين الماديين. كذلك يلجأ العظم إلى كشف تراجع العديد من هذه النصوص والمفاهيم عن مادية الماركسية، وعن علمية «الفكر الحديث»، وخضوع أصحاب هذه النصوص أحياناً ـ وباسم الحداثة وتحديث المفاهيم ـ إلى الفكر النقيض.
وهكذا، تحتوي فصول الكتاب على ثلاث محاورات: 1) من الفلسفة الحديثة إلى الفلسفة المعاصرة، و2) في الفلسفة المعاصرة، و3) الماركسية البنيوية وما بعدها؛ والعظم، في اتساق تامّ مع محاوره قيصر، يقترح قراءة نقدية لنصوص من الفلسفة الحديثة والمعاصرة، وصولاً إلى آخر تيارات الماركسية، في ارتباط هذه الفلسفات بحركة التطور والصراعات الاجتماعية. وفي هذا السياق، تتوفر للقارئ مادة غنية حول ديكارت وكانط وهايدغر، استرشاداً بطرائق ماركس وأنجلس التحليلية ـ النقدية، مروراً بأمثال جان بول سارتر وجورج لوكاش، ثم مختلف المدارس البنيوية، ليس دون وقفات معمقة عند لوي ألتوسير وإتيان باليبار والماركسية البنيوية. ولا تغيب عن العظم، ومحاوره، ضرورة القراءة النقدية لمسارات الفكر العربي الحديث، في ضوء ذلك كله، ولنصوص وكتابات عدد من المفكرين والفلاسفة العرب الآخذين بهذه الفلسفات، سواء المسترشدين بها في محاولات جدية لإنتاج جديد ما، أم أولئك المنافقين المقلدين والذين يشكلون امتدادات باهتة لها في الإطار العربي، أو مجرّد أصداء جوفاء.
على سبيل المثال، في توقفه عند المناقشات التي جرت على صفحات مجلتي «شعر» و«مواقف»، بخصوص الحداثة، وخاصة نصّ أدونيس المعروف «بيان الحداثة»؛ أشار العظم إلى أن هذه المناقشات لا تتناول الحداثة إلا بمعنى الـModernism وليس الـModernity أي تجاوز العالم الحديث لنفسه إلى عصر آخر ذي تطبيقات وتجليات تمسّ الحياة الحديثة. وتلك المناقشات ذات ميل عام معاد للحداثة بمعنى «الموديرنتي» انسجاماً مع قربها الأكبر إلى الجناح ىاليميني داخل «الموديرنيزم» الأوربية نفسها. وإذا كان هايدغر، حسب العظم، واحداً من أهم وأبرز المنظرين للجناح اليميني في الحداثة الاوربية بمفهوم «الموديرنيزم»، ومن أكثرهم رفضاً للحداثة بمفهوم «الموديرنتي»؛ فإنّ أدونيس ينتمي إلى هذا الجناح ويلتزم به، خاصة وأن هايدغر «جعل من الشاعر نوعاً من النبي الذي ينكشف عن طريقه أو عن طريق لغته وإبداعه قدس الأقداس أو وجود الموجودات».
يقول العظم: «مناقشات أدونيس حول الحداثة ومداخلاته عنها لا تقصد إلا الحداثة بمعنى الموديرنيزم وهي معادية في العمق عداء شديداً للحداثة بجميع تجلياتها الكبرى، أي الحداثة بمعنى التحديث والعالم الحديث وبمفهوم الموديرنتي العام. إلا أن أدونيس يستفيد ببراعة، في طروحاته عن الحداثة، من الالتباس الحاصل بين المفهومين اللذين أشرت إليهما في الاستخدام العربي للعبارة. يسمح هذا الالتباس لأدونيس في أن يظهر، في معظم الأحيان وليس دوماً، بمظهر التقدمي الداعي بقوة للتحديث والحداثة بمفهوم الموديرنتي، في حين أنه لا يدعو حقاً إلا للطروحات الأكثر رجعية وارتدادية وأصولية».
وبين موضوعات الكتاب اللافتة ثمة مناقشة العظم لتنظيرات جورج لوكاش، والرأي في أنه هو مؤسس الفلسفة الوجودية في مطلع القرن العشرين، والقصد هنا لوكاش الشاب أو المبكر، وليس ذاك الذي صار أحد أقطاب الماركسية في القرن العشرين. ويرى العظم أن لوكاش جاء إلى الماركسية من مواقع ثقافية وفكرية وفلسفية مضادة تماماً، وعبر صيرورة تطورية متداخلة وطويلة شملت الأصعدة الذهنية والشخصية والعاطفية والسياسية كلها. لهذا فإنّ استيعاب منجزاته وفهمها دون تتبع هذه الصيرورة التطورية مستحيل، في يقين العظم، إذْ نجد في كتاب «النفس والشكل» بدايات تنظير لاهوتي وجودي، وشروع في بلورة أولية لبعض أهم تعاليم الفلسفة الوجودية وأشهرها؛ أما اللاهوت البروليتاري فقد جاء في مرحلة لاحقة، ونجده في «التاريخ والوعي الطبقي»، وبعد ذلك أصبح لوكاش مادياً ماركسياً.
يكتب العظم، تعليقاً على إقرار لوكاش بأنّ كتاب «التاريخ والوعي الطبقي» كان طريقه إلى ماركس: «الغائية الدينية في وصفه واضحة كما في قولنا الطريق إلى مكة أو الطريق إلى القدس أو ما شابه. معروف كذلك أن تحوله إلى الشيوعية أخذ على الأصعدة العاطفية والشخصية والذاتية ـ وليس على الصعيد الموضوعي بطبيعة الحال ـ شكل ذلك النوع من التحول الفجائي في القناعات والالتزامات والسلوك الذي نربطه عادة بالتجربة الناجمة عن «النور الذي قُذف في الصدر» بعد طول سؤال وضياع وبحث وعناء». وبتابع العظم، في تثمين إضافي لخصوصية لوكاش، أن عبقرية الأخير تكمن، إلى حد بعيد، في «مقدرته الهائلة على تأسيس كل مرحلة من مراحل تطوره الفكري والفلسفي والسياسي وصياغتها والتعبير عنها على مستوى من العمق والإحاطة والقوة والدقة يتعذر العثور على شبيه له في تاريخ الفلسفة المعاصرة. هذا يفسر تأثيره الواسع والمستمر والاهتمام الكبير الذي يحظى به».
وفي ما يخص الماركسية البنيوية وما بعدها، رأى العظم أن محاولات المزاوجة في القرن العشرين بين الماركسية والتيارات الفلسفية اللأخرى ـ الفلسفة الحيوية، الوجودية، الفينومينولوجيا ـ كتمن تتم دائماً على حساب الماركسية، أي على حساب ماديتها وعلميتها، ثم أيضاً على حساب تاريخيتها وجدليتها. وفي هذا الصدد يتوقف عند ماركسية ألتوسير البنيوية، معلناً أنه بعد دراسة أعمال الأخير توصل إلى استنتاج قد يفاجئ محاوره: على الرغم من هجومه القوي على هيغل والماركسية الهيغلية التي أطلقها لوكاش الشاب، وعلى الرغم من نقده الشديد للماركسية التاريخانية والإنسانوية (التي ارتبطت بكتاب «التاريخ والوعي الطبقي» وباسم جان بول سارتر)؛ فإنّ «الحصيلة العامة لإنتاج ألتوسير النظري والفلسفي أقرب بكثير إلى تعاليم لوكاش الشاب مما قد يبدو على السطح أو للوهلة الأولى، وما لاحظه شرّاح ألتوسير ونقّاده».
وفي الأجزاء الأخيرة من الكتاب يفرد العظم مناقشات معمقة للظواهر اللغوية والألسنية، ويستخلص أن طموح أصحاب التيار اللغوي، أو بعضهم على أقل تقدير، هو «اختزال صيرورات الحياة والطبيعة والمجتمع والإنسان ووقائعها كلها إلى اشكال مجردة وصور محض وعلاقات لغوية خالصة، بحيث يصبح كل ما هو قائم لا أكثر من ظاهرة لغوية أو خطابية، ويتحول كل ما هو وجود إلى حالة سيميولوجية لا تحيل إلا إلى حالات سيميولوجية شبيهة بها ومماثلة لها». ولا يتردد العظم في ردّ هذه النزعة إلى ما يُسمع من أن وقائع علم النفس والاجتماع والأنثروبولجيا والسياسة والأدب والفن والميثولوجيا والطب والأزياء… هي «لغات قائمة بذاتها» و«مفرداتها وعناصرها مرتبة كلها ترتيب النسق اللغوي الخالص». وقد تكون هذه البنيوية الأدبية ـ النقدية، التي ازدهرت في خمسينيات القرن الماضي تحت اسم النقد الجديد، هي أولى البنيويات التي تعرّف عليها الفكر العربي المعاصر وتأثر بها.
وفي الخلاصة، وكما أشار دكروب، فإنّ كتاب العظم هذا جاء في وقته ليكون واحداً من علامات الضوء والوضوح، في زمان الأزمة والخلخلة الفكرية والتراجعات الجذرية.
صادق جلال العظم: «»دفاعاً عن المادية والتاريخ»
حوارات مع عفيف قيصر.
دار الفكر الجديد، بيروت 1990.
536 صفحة
القدس العربي
لتحميل الكتاب من الرابط التالي
صادق جلال العظم: «»دفاعاً عن المادية والتاريخ»
أو من الرابط
صادق جلال العظم: «»دفاعاً عن المادية والتاريخ»
الرابط الثالث
صادق جلال العظم: «»دفاعاً عن المادية والتاريخ»