نايف.. هو الذي رأى كل شيء/ راشد عيسى
قبل حوالي ثلاث سنوات ظهر فيديو لطفلٍ حلبيّ اسمه نايف، لعلّه لم يكمل من عمره الغض سنوات عشر، كان الفيديو الأجمل والأكمل للحكاية، للمأساة السورية.
ظهر الصبي صبيحةَ ليلٍ دامٍ تعرّضتْ فيه حارته لصاروخ سكود، تهاوى إثره الحيّ بأكمله، وقضى ما لا يقل عن أربعين شهيدا.
كان نايف يروي الحكاية من فوق الركام، ومن خلفه كان الناس يحاولون إنقاذَ ما يمكن إنقاذه.
روى الصبي حكايته بصوت مرتجف، لكن بثبات وحكمة، بطريقة لن يتمكّن منها إلا من ورث مبكراً لغة أهله، طيبَتهم، ونظرتهم للناس، الحياة والموت.
قال نايف، وراح يحصي من قضى، «إخواتي، بيت جدي، ولاد عمي.. نانتي (جدّتي) أربع شقف، خالتي طايرة، ما لاقوها لهلق».
وهنا يلتفت الصبي محتاراً، ثم يقول عبارة، باتت هي فحوى الفيديو برمته «بس أفهم، ليش عم يضربنا؟ حُكْم القوي عالضعيف؟».
ويستأنف «طالعنْا ولاد عمي، شباب (يقولها بحسرة على شبابهم)، واحد ساجد عم بيصلي (يقولها وقد توفّر لديه دليل إدانة للقاتل المتوحش، فمن يطاوعه قلبه على قتل ساجد مسالم أعزل يصلي). ثم يمضي نايف ليقول «اش ما أحلاهن! ريحة المسك طلعت منن، عم يضّحكوا». يتحدث عن امرأة تصيح على من قضى، يصفها بالقول «تصيح»، وهنا يمدّ الياء قدر الإمكان،»يا عباس، يا محمود»، ولكن النداء ذاته كان يحمل فقدان الأمل.
بعبارات بسيطة يروي نايف كلَّ حكايات الحيّ، هذا الذي حكاياته بين يديّ الجميع: «ابن عمي، ابنه مات»، و»امرأة حامل، هذا شهرها، جوزها مخبي لها مصاري حتى تولد، راحوا».
ويتابع «أيش دا أحكي لك، في ولد عمره جمعة، أبوه طقّ عليه، عم ينام بالقبر. يحرس القبر، جنّ».
أما حينما يتحدث الصبي عن نفسه، عن جرحه، هو الذي ظهر بعصبة بيضاء على الرأس، فيبدو كمن وصل إلى رأس الحكمة، حيث أراد حتى أن يجبر جرح أبيه ومخاوفَه «أنا كنت متصاوب، أغمي عليّ. أبوي حسْاس كتير، صاح: «نايف»، قلت له ما فيني شي».
يعرف نايف الحكاية كلها، لأنها حكايتُه، يعرف حارته بالاسم، صغيرها وكبيرها، لن يستطيع أحد أن يخدعه، ويعرف جيداً من أين جاء الصاروخ.
أمس ظهر نايف في فيديو جديد عابر، وقد نزح عن بلدته اعزاز، تلك التي أصرّ على البقاء فيها رغم أنف ذلك الصاروخ.
كبر الصبي، كان هادئا، لطيفاً، وأجمل من نبيّ، وحين سئل عمّا اضطره للنزوح أخيراً قال «هربت من القصف، الأكراد (من المبكر طبعاً أن يعرف أي حزب من الأكراد)، الطيران الروسي طلع علينا، والنظام قرّب، والميليشيات الشيعية عم تذبحنا».
أما ختامُ الفيديو الجديد فسيختصر حلمَ نايف «انشالله راح يسقط الأسد، ونرجع على سوريا».
ويُتْبِع هذا الوعد بحلم بسيط «راح نرجع على فول النجمي، والفلافل، والأكلات الشعبية».
فهل من حكاية وشهادة أكمل من هذه؟ ألم يقل نايف الحكاية كلها، والأملَ كله؟ من يستطيع أن يقنع الصبي، الذي شهد كل شيء بأم العين، أن يغيّر شهادته، وأن يقول إن الملك لم يكن عارياً؟!
القدس العربي