صفحات الرأي

عودة الفرهود/ صقر أبو فخر

 

الإنسان ميال بالفطرة إلى الحديث عن نفسه، وإلى تخليد أيام حياته، وبقاء ذكره حاضراً بعد مماته، في أسماء أحفاده. ولعل لغز الموت ومعضلة الوجود يدفعان الإنسان إلى كتابة سيرته الذاتية أحياناً. وأقدم السير الذاتية ما كان القدماء ينقشونه على جُدُر الكهوف، ثم على شواهد قبورهم، وهي نصوص قصيرة يصوغها صاحبها أو الزجّالون والشعراء، لتُحفر وتُنقش، قبل أن يوارى الثرى، حيث لا يزور بعدها ولا يُزار.

وتنتشر في العراق وسورية ومصر مئات المدافن التاريخية والأثرية الجميلة، وتتعرض، اليوم، للإبادة والتحطيم والمحو، بذرائع عقيدية بدائية ومضحكة، أو استناداً إلى فتاوى معادية للتحضر. والمدافن في المدن العربية، ولا سيما في دمشق وحلب وبغداد والقاهرة، تقدم مادة ثرية جداً في معرفة تاريخ المدينة، وتواريخ الأشخاص والجماعات والعائلات، وهي حقل مهم لدراسة التاريخ الإناسي والاجتماعي للمدينة، ولدراسة فن الخط وتطوره وجمالياته، فضلاً عن اللغة المستخدمة في كل حقبة، وهي تعتبر، فوق ذلك، مصدراً مهماً للاطلاع على الحِرَف والمهن والأنساب.

ففي دمشق وحدها، واستناداً إلى أسماء العائلات المنقوشة على شواهد القبور في بعض المدافن، أمكن إحصاء نحو أربعمئة مهنة كانت سائدة، ثم صارت بائدة، ومع ذلك ما برحت موجودة في أسماء العائلات. والمهن المندثرة هي التي منحت دمشق أهميتها التاريخية كحاضرة تجارية. أما العائلات التي اندثرت مهنتها وبقي اسمها فكثيرة منها: سكاكيني، جليلاتي، جاجاتي، طرابيشي،..إلخ.

* * *

غير أن السلوك البدوي لا يحفل بالتاريخ ومطموراته وشواهده، أو بالتحضر وآثاره وبقاياه، وخطابه البدائي، ما زال يكتظ بمفردات الغزو والمحو والاكتساح، وبعبارات رعوية، مثل “سنخرّب ديارهم ونمحو بالسيف آثارهم”. والجماعات التي لا تزال تزرع الأرض (الجماعات الرعوية والجماعات الصائدة) لا ترتبط بها، لأنها رحالة دوّارة، والزواج لديها متعدد، لأن لا استقرار للفرد في منزل واحد محدد.

ويصنّف ابن خلدون الناس صنفين: صاحب سيف وصاحب مهنة، أي غازٍ ومنتج. لكن المهنة محتقرة لدى البدو. وكان ولاة الأمصار ذوو الأصول البدوية يحتقرون المهن والزراعة معاً، وكل ما يهمهم الضرائب فحسب. ولعل جودة الأرض تؤدي، في أحيان كثيرة، إلى الخضوع؛ فالمهم لدى أهل الزراعة ليس الحرية، بل الأرزاق، وهؤلاء أكثر ما يخشونه السلب والغزو، وهو ما يحصل، اليوم، في العراق وسورية؛ فعندما ينهار النظام العام في المدن، يهجم سكان البوادي على الأرياف والمدن معاً، وتسيطر عليهم نزعة الغزو أو “الفرهود” بحسب المصطلح العراقي.

* * *

مثلما استندت الثورة العربية الكبرى إلى بدو الحجاز والأردن ورجال الاستعمار الإنكليزي، أمثال لورنس، ومثلما استند عبد العزيز آل سعود إلى بدو نجد ورجال الاستخبارات الإنجليزية وبعض شيوخ الدين، ها هي الحركات الإسلامية المقاتلة تستند إلى أبناء العشائر البدوية، وإلى جماعات مهمشة، تعيش على تخوم المناطق الزراعية في الشام والعراق.

وهؤلاء لا يقيمون أي اعتبار لتمثال أبي العلاء المعري أو تمثال عثمان الموصلي أو أيقونات معلولا. وكان ديدنهم تهجير المسيحيين لمصادرة أملاكهم، وهو ما فعلوه في الموصل، أخيراً، بعد أن صادروا ثلاثين كنيسة، ودمروا بطريركية السريان الكاثوليك، بما فيها من كنوز وأيقونات وأوانٍ أثرية ولوحات قديمة وعمارة أخاذة. أَجهاد الفتح هذا أم جهاد الغزو إذاً؟ ومن سوء حظ العراق أنه قائم على تخوم البادية والحضارة؛ ففيه نشأت أقدم حضارة زراعية، وإليه وفدت أقدم الهجرات البدوية العربية. وها نحن، اليوم، نشهد انتصار البدوي على المديني.

يروي علي الوردي في كتابه “شخصية الفرد العراقي” (دار الورّاق 2009) أن عراقياً من الأرياف مرّ بمكتبة في بغداد عامرة بصنوف المعرفة والعلوم، فهتف: أنا أعرف ما في هذه المكتبة كلها. وعندما قيل له: كيف تعرف ذلك وأنت أميّ؟ أجاب: خلاصة ما فيها جملة واحدة هي: “يا ابن آدم صير خوش آدمي”. ولا ريب في أن جميع ما تحتويه مكتبات العراق من نفائس العلوم والمعرفة والحكمة لم تتمكن من أن تجعل الأوغاد “خوش آدميين”.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى