عن أعداء الربيع العربي!/ أكرم البني
لم يصل الربيع العربي إلى مبتغاه وكانت النتائج، إذا استثنينا تونس، مريرة ومكلفة ومخيبة للآمال، والسبب أن أعداءه كثر، والمفارقة أنهم ينتمون إلى جهات تبدو متخاصمة ومتحاربة، لكنها تتفق جميعها على محاصرة ثوراته وتشويهها، وإجهاض تطلعات شعوب المنطقة نحو الديموقراطية.
بدهي أن تكون أنظمة الاستبداد الطرف الصدامي الأول المناهض لشعارات الحرية والعدالة والكرامة التي رفعتها قوى الربيع العربي، وإذ حاول بعضها الالتفاف على رياح التغيير وبادر إلى التنازل وإصلاح ما يمكن إصلاحه إرضاءً للناس، فثمة أنظمة استهترت بالمعالجة السياسية وتوسلت، من دون رادع أخلاقي أو إنساني، كل الوسائل لوأد الحراك الشعبي وسحقه، إن عبر القمع العاري والمفرط ولو كان الثمن إزهاق الأرواح وخراب البلاد أو تفكيكها أو رهنها لقوى خارجية، وإن عبر إنعاش وتغذية النزاعات المتخلفة، الطائفية والقومية، لحرف الثورات عن شعاراتها، مستندة إلى قوى قهر وفساد لا يهمها سوى الحفاظ على تسلطها وامتيازاتها، وإلى طابور أيديولوجي ينكر الأسباب السياسية لرياح التغيير ويجيد تكرار لازمة أن ما يجري مجرد مؤامرة استعمارية غرضها الهيمنة على مقدرات المنطقة وثرواتها.
ومن خصوصية ثقافتنا الإسلامية، تكاملت أدوار تيارات من الإسلام السياسي ومن الجماعات الجهادية المتطرفة لاعتراض الربيع العربي وعرقلته، فالأولى التي عانت الأمرين من ظلم الأنظمة وأظهرت وجهاً معادياً للاستبداد وتمكنت من ركوب موجة الحراك الشعبي والوصول إلى السلطة، ما لبثت أن انقلبت على الشعارات الديموقراطية والمدنية التي رفعتها (مصر نموذجاً) كاشفة عن وجه استئثاري مريض حاول إعادة إنتاج التسلط والديكتاتورية بلبوس جديد، بينما أفادت الثانية من أتون العنف المذهبي المستعر، كأمثلة العراق وسورية واليمن، لتمرير خطاب أيديولوجي مسطح يحتكر قيم الإيمان والمعتقدات الدينية ويعمد من أجل إقامة «دولة الخلافة» إلى إلغاء حقوق الناس ومعاني الحياة والتنوع، وتالياً تحريم العقل والتفكير وإباحة القتل والذبح في أي مكان وضد أي كان.
وأيضاً من خصوصية منطقتنا أن ثمة دوراً مهماً لإسرائيل في تقرير مصير الربيع العربي طالما أن كلمتها مسموعة غربياً وطالما تتعارض مصلحتها مع نشوء ديموقراطيات حقيقية إلى جوارها. والسؤال، ألا تخشى تل أبيب فعلاً، من وجود شعب عربي حر يمسك بزمام أموره الاقتصادية والسياسية والعسكرية؟ ألا يلغي ذلك، على الأقل، الصورة التي تروجها عن نفسها بأنها بلد الحرية الوحيد في صحراء من الاستبداد كي تستجر تعاطف الرأي العام العالمي؟ ثم ألم تعلمها تجارب صراعها المزمن مع العرب بأن التعامل والتفاوض مع ديكتاتوريات فاسدة تكتم أنفاس الشعوب وتهدر ثرواتها الوطنية هو الطريق الأجدى والأقل تكلفة؟!
ويزيد الصورة وضوحاً ما يصح اعتباره تواطؤ غالبية الأنظمة العربية على محاصرة رياح التغيير ووأدها، بما هو موقف ضمني مشترك يتحسب من تأثير نجاح أي تحول ديموقراطي في المنطقة على مجتمعاتها، وتليها الدول الغربية التي تبدو كأنها تحاصر بدورها الربيع العربي على النقيض مما تدعيه عن نصرة الديموقراطية وحقوق الإنسان، ربما رداً على النتائج الضحلة على صعيد تجفيف منابع الإرهاب التي خلفتها فترة الحماسة لنشر الديموقراطية عبر مشروع الشرق الأوسط الكبير، وربما لفشل رهانها على دور الحريات السياسية في تمكين الإسلام المعتدل من سحب البساط من تحت أقدام قوى التعصب والتطرف، وربما لأن خيار التعاون مع أنظمة الاستبداد ودعمها أسرع الطرق وأوفرها لضمان استقرار مصالحها، بخاصة أنها باتت تحتاج اليوم، مع ارتفاع حرارة الصراع على النفوذ والهيمنة، إلى مزيد من الأوراق لتعزز مواقعها في مواجهة خصومها ومنافسيها.
تغليب لغة المصالح على المبادئ والقيم، هي سياسة يكررها الغرب من دون وازع، تجلت في آخر صورها بالتباين الصارخ في التعاطي مع الثورتين السورية والليبية، فعلى رغم شدة المحنة السورية وما تخلفه من ضحايا ودمار ومشرّدين، وقفت الدول الغربية موقف المتفرج، لأن سورية بلد فقير ومكلف، فكيف وإن كان تسعير الصراع الدموي هناك يستنزف خصومها، كروسيا وإيران والجماعات الأصولية، وربما حتى آخر سوري! بينما سارعت للتدخل العسكري المباشر في ليبيا، كي تحاصص على الاستئثار والتحكم بثروتها النفطية، حتى لو أفضى ذلك إلى تحويل ذلك البلد إلى ساحة للحروب الأهلية قد تفككه إلى أقاليم وإقطاعيات قبلية.
والحال لم يواجه شعب في العالم طامح للحرية والديموقراطية هذه الوفرة من الأعداء كما تواجه اليوم الشعوب العربية، لا في أوروبا الشرقية ولا في أميركا اللاتينية ولا في أفريقيا، ليبدو حراك الربيع العربي كأنه يقف وحيداً وعارياً أمام أنظمة استبدادية لا حدود لعنفها وفتكها، وأمام تيارات من الإسلام السياسي وقوى التطرف الجهادي لا توفر جهداً لاختطاف أحلامه وآماله وتهميش معارضته العاجزة عن تشكيل البديل المرتجى، وأمام تواطؤ إقليمي وعربي همه الرئيس وأد براعم هذا الربيع وإجهاض تداعياته الديموقراطية، مستنداً إلى سلبية مقيتة للمجتمع الدولي وإلى إحجام عواصم القرار الغربي عن دعم تطلعات البشر نحو التغيير، وكأن لسان حال هؤلاء جميعاً، ينذر الشعوب العربية من أخطار ما قد تجنيه إن حاولت السيطرة على مصيرها وثرواتها، بل يحذرها من أن تحلم بنيل حريتها وكرامتها، أو أن تفكر ببناء نظام ديموقراطي يخلصها من ربقة الطغيان، والأنكى حين تتقصد هذه الأطراف الموغلة في أنانيتها وجشع مصالحها، توظيف ما يحصل من مآسٍ وضحايا ودمار في بعض بلدان الربيع العربي لدفع الناس كي تندم على الساعة التي ثارت فيها على مضطهديها ولإزالة عقود من الاستبداد المرير، فهل ينجح هذا التكالب الوحشي في مسعاها، أم سيؤكد التاريخ مرة أخرى، حقيقة أن الشعوب التي تسعى وراء حريتها وكرامتها لا تهزم، بل لا بد من أن تصل إلى غايتها مهما عظمت التضحيات.
الحياة