الأغنية السورية المعارضة/ نبيل سليمان
منذ الأيام الأولى للزلزال السوري عام 2011 صدحت الحناجر بالأغنية / الهتاف. وفي الأسابيع الأولى بات الحديث ممكناً عن أغنية سياسية معارضة على نحوٍ يذكّر بالمشروع الريادي الفريد، الذي قام به حوالى سنة 1923 سيد درويش والمهندس إميل عريان، إذ سعيا إلى تدوين الأغاني المتداولة بالنوتة. وكانت هذه الخطوة رائدة في متح الأغنية من العطاء الفني الشعبي، بما يعنيه ذلك من تسييسٍ وتثوير.
الأغنية المعارضة:
من التراث الذي يُفترض أنه الظهر المكين لأغنية الزلزال السوري المعارضة، حسبي أن أشير إلى ما كتبه أسامة العارف في مجلة “الطريق” اللبنانية (1976) مبتدئاً بأن الأغنية السياسية لم تكن معروفة في لبنان إلى أن كانت في مصر ظاهرة أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، وكذلك ظاهرة “ثنائي حب مصر”: سمير عبد الباقي وعدلي فخري. ومثل ذلك هو ما قدمه بالفرنسية بول مطر من أشعار أدونيس ومحمود درويش في مشروع “أشرطة أغاني الشعب”. ومثل ذلك هي ظاهرة مارسيل خليفة، وفرقة “كورال طريق الجديدة” في بيروت التي أشرف عليها غازي مكداشي وخالد الهبر، وضمت أربعين منشداً وعازفاً من الهواة، وقدمت أغاني سياسية ثورية لشعراء وكوادر، كل ذلك عدا عن الأغاني الجماعية الكثيرة التي ظهرت دون أن يعرف من هو مؤلفها أو ملحنها.
هكذا كان للزلزال اللبناني منذ بدايته عام 1975 أغنيته التي تبدد منها ما تبدد، بقدر ما كان ثورجياً عابراً وصاخباً مكتفياً بالمهمة التعبوية، بينما بقي من تلك الأغنية ما بقي، بقدر ما كان فناً رفيعاً، شعبياً أو نخبوياً.
*
قبل العودة إلى أغنية الزلزال السوري السياسية المعارضة، ومن أجلها، أذكّر أخيراً بعمر الزعنّي الذي حكم عليه في لبنان سنة 1950 بالحبس ستة أشهر، لأنه ألقى في حفلة عامة أغاني انتقادية سياسية واجتماعية. لكن ما بكّر على من غنّى في سورية معارضاً، ليس الحبس، بل اقتلاع الحنجرة، وهو ما كان جزاء إبراهيم القاشوش في مدينة حماة صيف 2011. ومن المعلوم أن الزلزلة في الرقة قد أنعمت أيضاً بقاشوش الفرات قبل أن تساوي بين ليلها ونهارها الرايات السود غير الداعشية كما الداعشية.
في زمن السلمية السورية القصير الذي أخذ يتبقع بالدم مبكراً، وأعنف فأعنف، صدحت الحناجر السورية. لكن العسكرة عاجلت السلمية كما عاجلها النظام، فأخذ صوتها يخفت لتتجدد “حكمة” جمال عبد الناصر: “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”. وكان على الأغنية بالتالي أن تنوء وتنهض بالمهمة التعبوية. وعبر ذلك كانت علامات فردية وجماعية قد ارتسمت:
يحيى حوا (أغنية: طالع ع الموت يا أمي، مثلاً)، وخاطر ضو (أغنية: بيقربك حمزة، مثلاً، والمعنيّ هو الفتى حمزة الخطيب)، وعبد الباسط الساروت في أغنية: (حانن للحرية)، وأغنية: (يا يمّا ثوب جديد)، وبخاصة الأغنية التي تحولت إلى أيقونة (جنة جنة جنة/ جنة يا وطنّا/ يا وطن يا حبيب/ يابو تراب الطيب/ حتى نارك جنة).
*
في هذا السياق جاء نسج أغان كثيرة على ألحان أغان شعبية متوارثة أو رائجة. فعلى لحن (سكابا يا دموع العين) وعلى لحن (مجاريح) غنى المغنون. كذلك غنوا بكلمات سياسية ثورية على لحن ( ع العين موليتين واتنعش موليا) هذه الأغنية الموجعة الشهيرة (وأنا طالع اتظاهرْ/ ودمّاتي بيديّا/ وإنْ جيتك يمّا ذبيح/ لا تبكين عليّا). ومثلها على لحن أغنية (بين العصر والمغرب) التي أوقف ثوبها الجديد على مدينة حمص، ومنها بأداء صقر حمص: “بين العصر والمغرب/ مرت جنبي دبابة/ سبطانتها عشر أمتار/ وما بتأثر بأعصابي/ بين العصر والمغرب/ مرت جنبي شبيحة/ وجهن أسود بيكهربْ/ واحنا إلهم دبيحة”.
وظهر الثنائي عدنان الجبوري مطرباً، وخضر هادي شاعراً، ليقدما في فيديو كليب أصداء عراقية، ولجنوب سورية والأردن أيضاً. ومعلوم أن لتلك الأصداء في نصف سورية من شرقي حلب إلى محافظات الرقة ودير الزور والحسكة، حضوراً غالباً في الغناء واللهجات واللباس والطعام والعادات والأنساب القبلية والعشائرية والهجرات. ومما قدم هذا الثنائي السوري (المطرب) والعراقي (الشاعر) أغنية (يا سوري) وأغنية (أريد أرجع على سورية)، والتي تنبض بمعاناة الذين اضطرتهم الحرب إلى الهجرة، ومثلهم من جرى تهجيرهم. ومن هذه الأغنية: “أريد أرجع على سورية/أريد أرجوك/ أمي هناك تنطر/ وحرام عيونها تدمع/ أبوس الباب والجدران/ أبوس الجبل والوديان/ وأصيح المشتكى لله”.
من الفنانين الناشطين من سعى إلى تأسيس فرقة. ففي سنة 2011 ظهرت في سلمية فرقة (أحرار مدينة سلمية) وفي طرطوس ظهرت فرقة (كراج قديم)… وربما كان لهذه الظاهرة أن تؤكد جديدها لولا أن غلبتها العسكرة والسياسة. ومن الفرق الشهيرة فرقة المندسين السوريين التي أسسها أحمد كرزون، وراهنت على التبديل بكلمات أناشيد وأغان ذائعة، فقد حور للفرقة معاذ نحاس بكلمات النشيد الوطني السوري الذي يعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي. كما قدمت الفرقة ألحاناً وغناءً، وبالتعاون مع فريق (ملتيميديا الثورة السورية) أغنية (سورية يا حبيبتي) التي غنتها في الأصل نجاح سلام ولحنها محمد سلمان (اللبنانيان).
*
من الأغنية السياسية السورية المعارضة هذا الذي يترجّع في فضاء مدينة الرقة قبل وبعد أن جعلتها داعش عاصمة الخلافة الإسلامية. ففي هذه المدينة التي كانت مصيفاً لهارون الرشيد وعاصمته الثانية بعد بغداد، اندغم الهتاف بالأغنية الرقاوية/ البدوية/ العراقية/ الشعبية، ما إن بدأت فيها المظاهرات السلمية، ولو متأخرة عن أخواتها المحافظات الأخرى. ومما صدحت به الرقة “رقّاوي وما بي خيانة/ وين الأمن اليتحدانا” وكذلك “رقّاوية واحنا قدّه/ هذا الصنم بدنا نهدّه” والقصد هو تمثال حافظ الأسد الضخم أمام مبنى المحافظة. وهنا، كما في أنحاء شتّى من سورية التي زلزل زلزالها السلمي، اشتبك الفولكلور حيث عصارة السنين ، بما يصطخب به الراهن، ومن ذلك هذا الذي تنوح به (عمتي خديجة) في رواية الرقّاوي محمود حسن جاسم (نزوح مريم)، إذ افتقدت ابنها، فصار نواحها هو نواح كل والدة أو قريبة لشهيد: “يا شايلين النعش/ ياهل المروة وُجاي/ خلوني أودع الولد/ إبريحْ المسك وانْعاي”. وبالمناسبة، انسربت الأغنية السورية المعارضة في روايات شتى، ومن ذلك ما كان في رواية محمود حسن الجاسم، وفي روايتي (جداريات الشام – نمنوما) وفي روايتي (ليل العالم). وفي الأخيرة مضيت أيضاً إلى نصيب لداعش من الأغنية السياسية المعارضة كما في: “يا سورية ويا أحرار/ غير الدين ما نختار/ نبغي الجنة والأنهار/ وما لنا غيرك يا الله”. والأغنية الداعشية هنا تلصّ – من اللصوصية – في قفلتها ما كان لازمةً في الهتاف والأغنية المعارضين السلميين: “وما لنا غير يا الله”. وكما استثمرت داعش الأطفال في القتال، كان في الغناء في الرقة، ومن ذلك ما يصدح به طفل مخاطباً الجموع: “أما تحزنكم صيحات أمٍ/ وأخت تستغيث من المرارة؟” وقد ترجّع في سماء الرقة كما في غيرها، رد الأغنية العراقية السياسية الساخرة على داعش: “إبليس إجانا وحضرْ/ يلله نتلاقى القمر/ حرّمنا شرب السيجارة/ وهجّرنا كل النصارى/ يا قاطع
الراس وينك؟/ حرّمنا كل شي إباحي/ إلا جهاد النكاحِ/ يا قاطع الراس وينك”.
*
بالنسبة لي، أحسب أن ذروة ما بلغته الأغنية السورية المعارضة هو ما صدح به سميح شقير مع عوده، كلمات ولحناً وغناءً، ومن ذلك أغنيته الشهيرة المبكرة والموجعة: (يا حيف). وقد انسرب من هذه الأغنية إلى رواية (جداريات الشام – نمنوما) هذا النبض من أيام وليالي 2011: “سمعت هالشباب يمّا الحرية ع الباب/ طلعوا يهتفولا/ شافوا البواريد يمّا قالوا: إخوتنا هن/ ومش رح يغدرونا/ ضربونا بالرصاص الحي/ متنا/ بإيد إخوتنا/ باسم أمن الوطن/ وإحنا مين إحنا؟..” كما انسرب إلى الرواية من أغنية سميح شقير الأخرى هذا النبض الكاوي المكوي: “رجع الخي يا عين لاتدمعيلو/ فوق كتاف رفقاتو ومحبينو/ رجع الخي يا أمي زغرديلو/ هالشهيد دمّاتو دين علينا”.
بالطبع، من الأغنية السياسية ما هو رهن لحظة بعينها. وبالتالي قد تعيش الأغنية أسابيع أو شهوراً. وندر من الأغنية ما يعيش طويلاً. والأمر رهن بتمثل الأغنية لنداء الراهن ولنبض الفن في الزمن. وحين يتوفر للأغنية ما يتجاوز بها الراهن، تبدو بعد حين يطول أو يقصر أنها تتجاوز الاصطفاف، وأضرب مثلاً لذلك بأغنية (باكتب اسمك يا بلادي/ ع الشمس الما بتغيب). وأحسب أن أغنية سميح شقير (يا حيف) هي من هذا الإبداع النادر.
تتسم الأغنية السياسية بعامة ببساطة اللحن، وبالدور المضاعف للكلمة، وللنبرة، والخطر الذي يتهددها هو بالضبط مهمتها التحريضية. وهنا أعود إلى ما بدأت به، لأتابع فيما كتبه أسامة العارف من أن قيمة الأغنية السياسية تتحدد بشعبيتها، وهي تهدف إلى إمتاع الجماهير أيضاً، وبالتالي ليس التحريض هو الهدف الوحيد. وقد تكون القيمة الفنية لهذه الأغنية ضعيفة، بسبب المباشرة التي تسم أغلبها، حتى ليبدو بعضها مقطعاً من خطاب أو منشور، لكنها “العتبة التي لا بد منها للوصول إلى فن شعبي جديد منبعث عن ثقافة شعبية جديدة”.
في سنة 1977 نشبت معركة ثقافية حول الأغنية السياسية في سورية، عندما هاجم ممدوح عدوان أغنية الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، فوصفها بالسطحية والمباشرة والاستعجال والاعتماد غالباً على الأسلوب الخطابي أو على أسلوب الردح، وهي بالتالي تساهم في تسطيح نظرة الشباب للفن، وفي تكريس الفن التعليقي المناسباتي، ويعلل ممدوح عدوان ذلك بالاستسلام للاستجابة الشعبية، والخضوع للذوق الفني المتردي، والحماس السياسي، مما يؤدي إلى تكريس الجهل كما أدى إلى المغالاة في تقدير ظاهرة إمام- نجم. (مجلة جيش الشعب المحتجبة 29/3/1977).
*
وقد ردّ عليه بوعلي ياسين ووفيق خنسة (الملحق الثقافي لجريدة الثورة 28/4/1977). والآن أحسب أن في (هجمة) ممدوح عدوان كثيراً من الصواب والضروري الذي يخاطب أغنية الزلزال السوري. وكنت قد شاركت بقسط في تلك المعركة الثقافية، بالقول: “إن الأغنية السياسية الثورية هي شارة على مستقبل الفن الديمقراطي الشعبي. وبمقدار ما نشكك فيها، ونزرع في دربها الألغام، بمقدار ما نكون بعيدين عن ذلك المستقبل، وبمقدار ما نأخذ بيدها، وننقدها، وندافع عنها في الوقت نفسه، بمقدار ما نكون قريبين من ذلك المستقبل”. والآن وبعد ست سنوات من الزلزلة السورية، وبعدما أجهضت عسكرة النظام والمعارضة – أو فالمعارضة – الأغنية المعارضة كما أجهضت السلمية، أخشى ألا يكون من مطرح لذلك الذي أرسلته قبل أربعين سنة. وكنت آنئذ – وفي العمل الصحافي المحدود لي طوال عمري – قد أجريت حواراً مع أمل دنقل، تحدث فيه عن بعض قصائده التي كان قد كتبها قبل سنوات، وتناقلتها ألسنة الطلبة في المظاهرات. وخلال سنين تالية قال الشاعر إنه لم يكد يتعرف على قصائده، بعدما أضافت لها الحناجر المجهولة ما أضافت. ولم يبكِ أمل دنقل مجد ونرجسية شعره، بل اعتز بأن قصيدته قد صارت أغنية ثورية. وضمير الجماعة في أحلك اللحظات. وإلى كل من يعنيه الأمر، أهدي هذا الختام الدنقلي.
ضفة ثالثة