صفحات الثقافة

الرواية حسب باموق

أليوشا والدْ لَزُوفْسكي

في الثاني عشر من أكتوبر2006، منح باموق جائزة نوبل للآداب، لكونه أجاد التعبير للغاية في أعماله عن تقاطع الثقافات وطابع اسطنبول، مسقط رأسه، الباعث على الحزن الحالم.

وباموق، الكاتب ذو الشعبية والرجل الحر الذي ينكبُّ عشر ساعات يومياً على طاولته للكتابة، قام بدخول مدوِّ في النقاش الأوروبي بتصريحه لأوساط الصحافة في 2005 أن : ‘مليون أرمني و30000 كرديٍّ قُتلوا، دون أن يجرؤ أحد على قول أيّ شيء.’ باموق، الذي أدانت الدولة موقفه وسانده عالم الآداب، هو رمز؛ وهو، المواطن الملتزم، يعرِّف ذاته بوصفه قبل كل شيء روائياً، ذا نزوع طبيعي نحو الشعرية واستلهام الأحلام. وتَلقَى أعماله المستوحاة من ستاندال، بلزاك، دوستويفسكي أو نابوكوف نجاحاً عالمياً، مثلما هو الحال مع ‘القصر الأبيض’ سنة 1985 (وهي رواية للعلاقات المطبوعة بالشغف بين عبد من البندقية ومثقف عثماني)، و ‘الكتاب الأسود’ سنة 1990 (وهي رواية تشويق وإثارة، تجريبية تغوص بمحام في اسطنبول قاتمةٍ وفسيفسائيةِ العناصر)، و’اسمي أحمر’ سنة 2000 (وهي رواية متعددة الأصوات عن شرق الحكايات والمنمنمات)، أو أيضاً ‘ثلج’ سنة 2004 (وفيها استكشاف للتوترات الهوياتية في قلب مدينة صغيرة شمال شرق تركيا).

إن فن الرواية هو في جوهر المحاضرات التي ألقاها باموق في نيويورك خريف 2008، بدعوة من صديقه وزميله الأكاديمي هومي بهابها، والتي جُمعت اليوم تحت عنوان ‘الروائي الساذج والروائي العاطفي’1. وباموك، إذ يحاور مونتِينْيْ ونيتشه، يمزج بالتفكير النقدي قصة مساره الشخصي ـ هو الذي كان قد شرع في الكتابة في سن الثانية والعشرين ليُصوِّرَ تركيا طفولتِه في ‘جودت بيه وأولاده’ ـ، يقارع ‘فن الشعر’ لهوراس، و ‘نظرية الرواية’ لجورج لوكاش و ‘سمات الرواية’ لإدوارد فوسْتر. كيف يؤكد الكاتب صوته الخاص؟ ما هو نصيب الابتكار، ونصيب الواقع في رواية ما؟ تشكل إجابة باموق مدخلاً جميلاً إلى الأدب : فالرواية إدراك أدبيٌّ صِنفُه بصريٌّ ونصيٌّ. ‘فن كتابة الروايات هو القدرة على إدراك أفكار ومشاعر شخصيات رئيسة داخل مشهد مَّا.’ منطلقاً من تقسيم ثنائي إلى ‘أدب بصري'(يترك هوميروس وتولستوي انطباعاً كبيرا عبر الصور والبصر) و ‘أدب لفظي’ (يؤثر إدغارألان بو و دوستويفسكي في القارىء عبر ردود الشخصيات الاعتراضية والأفكار المعبر عنها)، يُذكِّر باموق بأن فريدْريش شيلر قد قسم في 1796 الشعراء إلى جماعتين: السُّذج والعاطفيين. فعند جماعة نجد عفوية الفنان الطبيعية (دانتي، شكسبير، سرفانتس)، وعند الأخرى نجد عاطفيته المتأملة في ذاتها (الاستبطان الأخلاقي لشيلر). ما يهم، تبعاً لشرح باموق، هو كون الكاتب هذين الإثنين في آن واحد. فالكاتب يجمعُ بين الانفعال الغريب (‘الساذج’) وفكرة عامة (‘عاطفية’). وهذه التركيبة هي من صميم الرواية. فبفضلها تتمظهر قوة ابتكارالسرد وترابطُ الجمل وتتابُعها منطقياً، وشعرُ وموسيقى النثر السرية أو التلقائية. ‘في الروايات جيدة الإنشاء، يخلق ذلك النسيج من العلاقات جوَّ الكتاب ويكشف مركزه السريِّ.’

وبفحصه للروابط التي تجمع بين الفن والأدب والحياة، يختم باموق كتابه بالتذكير بأنه عندما كان شاباً كان يحلم أن يصبح رساماً، وكان يعير انتباها للأشياء التي كانت تحيط به، مثل شخصية كمال في روايته الإيروتيكية المتجردة من الأوهام ‘متحف البراءة’، الذي يجمع ما يذكره بخطيبته (عطر، دبوس شعَر، فنجان شاي…). ومكملا تفكيره في الثنائي المكوَّن من الواقع والخيال، قام باموق حديثا بافتتاح مُتحف باسطنبول مخصص لأشياء هذه الرواية. ورواية ‘براءة الأشياء’ هي دليل صور تلك الأشياء غير المألوفة والمدهشة المعروضة من طرف باموق، وهي أشياء اشتراها شيئاً فشيئاً بالتزامن مع كتابته (الملابس التي ترتديها البطلة فِسون، بطاقات اليانصيب التي تُلعب في الرواية) أو أشياء خيالية (مثل تلك العلامة التجارية الخيالية لمشروب غازي). لدينا هنا تجسيد مادي لإبداع متخيل: فهذه الأشياء هي في نفس الوقت محركات للسرد ودعامات مادية للذاكرة.

مقتطف من كتاب ‘الروائي الساذج والروائي العاطفي’ لأورهان باموق مترجمٌ عن الإنجليزية عبر الفرنسية (اسم المترجمة إلى الفرنسية : ستيفاني لُفي، ودارالنشر: غاليمار (190ص.)) :

(من بين تجارب الحياة التي يمر بها كل واحد من آن إلى آخر، فالرؤية هي بلا شك أكثرها أهمية. إن كتابة رواية تعني الرسم بالكلمات، وقراءة رواية تفيد مشاهدةً ذهنيةً للصور بواسطة كلمات شخص آخر.)

‘ إشارات:

1 ـ صدر بالإنجليزية سنة 2010 [م.].

ـ المرجع: المجلة الفرنسية ‘لو ماغازين ليتيرير’ (المجلة الأدبية) (العدد:524، تشرين الأول (أكتوبر) 2012، ص. 38.)

ترجمة: بيسان بن ميمون (شفشاون ـ شمال المغرب).

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى