“الدفاع المقدس” ضد “الخطر التكفيري”
حسام عيتاني
يُثقل “حزب الله” على اللبنانيين بأنواع من المطالبات يمتزج فيها الدنيوي بالآخروي ويطل منها المقدس داعياً إلى احترام حقوقه التي لا يعرف كيف يصوغها ويحددها غير الحزب وقياداته.
فقد اتفق عدد من نواب الحزب والمسؤولين فيه، وفي كلمات القوها في يوم واحد، على أن “أكبر خطر يتهدد لبنان الآن هو الخطر التكفيري”. وبينما اكتفى رئيس كتلة نواب الحزب في البرلمان اللبناني محمد رعد ومسؤول منطقة الجنوب فيه الشيخ نبيل قاووق، بتقرير مصدر الخطر والإشارة إليه، تبرع النائب نواف الموسوي – المعروفة عنه هواياته الثقافية – بتفسير مصدر الخطر فرده الى طبيعته التي “تشكل نقيضاً صميمياً لصيغته (لبنان) التعددية”.
والموسوي الحريص، طبعاً، على صيغة لبنان التعددية والذي لا ينطق عن هوى تماماً مثل رعد وقاووق، لم يكلف نفسه عناء تفسير ما قصد هو وصاحبيه بـ”الخطر التكفيري”. بيد ان لغة الحزب أو “خطابه” لم يعدا مما يخفى على مستمعين وقراء بنوا قاموساً لشرح وفهم التوريات والرموز التي يلجأ اليها الناطقون باسم الحزب وكتابه.
مسألتان يرمي مسؤولو “حزب الله” التشديد عليهما في كلامهم: الثورات العربية والطائفة السنية. ومنذ بداية الثورة السورية أقام الحزب ومن يرسمون سياساته توازياً بين المسألتين. الثورات العربية وخصوصاً في سوريا تشكل تهديداً لكل ما تحققه ايران من مكاسب منذ منتصف العقد الماضي. فبناء دول ديموقراطية عربية قادرة على تحديد مصالح شعوبها من دون الخضوع لابتزاز “القضايا الكبرى والمركزية”، ليس حدثاً تفصيلياً في الاستراتيجيا الايرانية. فهذه تفترض وجود فراغ عربي شامل يتيح لها إقامة خطوط دفاعية عن مركز النظام وبرامجه الحيوية ورؤاه الأمبراطورية. وبين تموز (يوليو) 2006 وبداية الثورة السورية في آذار (مارس) 2011 وبعد انسحاب القوات الاميركية من العراق، بدا أن ما من قوة قادرة على الوقوف أمام التمدد الايراني.
التغييرات في الخريطة السياسية العربية شكلت صدمة للتصورات الايرانية. زاد منها أن أي حديث عن الديموقراطية أو حكم الاكثرية، لا يرفع الغطاء فقط عن طبيعة التحالف الذي تقوده إيران المؤلف من أقليات طائفية وسياسية، بل أيضاً يطرح السؤال العميق عن معنى المصلحة الوطنية التي تريد هذه الشعوب تحقيقها وموقع الدعاية الإيرانية منها. يتزامن ذلك مع تحولات جذرية في صورة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وأدواته وطبيعة القوى المنخرطة فيه واهتمامات الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، حيث باتت “الممانعة” على طريقة النظامين الإيراني والسوري غير ذي صلة بالواقع القائم.
لا يسمح العقل الإيديولوجي الديني القابض على السلطة في إيران برؤية طموحات الشعوب العربية في معزل عن انتماءاتها المذهبية. وعند عقل كهذا، لا قيمة لتفسيرات اقتصادية وتاريخية واجتماعية تشير إلى الدرك الذي دفعت الأسرة الحاكمة في سوريا بلدها إليه. ما يراه هذا العقل هو نهوض أكثرية من طائفة مغايرة للاطاحة بحكم متعاون ومطيع للضرورات الإيرانية.
ولا يصدر الخطر عن تحديد دقيق وموضوعي لانتشار التيارات التكفيرية ولا عن حرص على التعددية في صيغة لبنان الذي لمس ابناؤه نتائج السياسات الاقصائية التي مارسها “حزب الله” و”المتفاهمون” معه في الأعوام القليلة الماضية. ومن يتابع وسائل الإعلام “الممانعة” في لبنان وسوريا، لا يعثر على نقاش جدي لخلفيات الفكر التكفيري والمحطات التي مرّ بها والفقهاء (السنة خصوصاً) الذين ردوا عليه وفندوا مقولاته، بل على سلسلة من الشعارات المصممة لالقاء الذعر في قلوب البسطاء من اللبنانيين لاقناعهم بإرسال ابنائهم للموت في سوريا دفاعاً عن المقامات المقدسة. عليه، يأتي الخطر من جذرية التحولات التي تتقدم الى المنطقة كقدر لا رادّ له ومن نوع جديد من الوعي لا خبرة للقيادة الايرانية والسورية في التعامل مع مقتضياته.
تتجلى هذه الخلفية في الاستعارات التي يستخدمها الحزب في وصف من يسقط من مقاتليه في سوريا إذ يصفهم “بشهداء الدفاع المقدس” مستعيناً بذات العبارة التي تستخدمها السلطات الإيرانية عند الاشارة الى الحرب العراقية – الإيرانية (1980- 1988)، وتصعيداً من وصف خسائره “بشهداء الواجب الجهادي” المعتادة. آية ذلك أن العقل الايديولوجي لا يرى نفسه إلا وسط معارك وجودية يتقرر فيها مصير العالم والمذهب والشعب والأمة.
لذا، تكون انتصاراته “إلهية” من صنع الغيب المنحاز إلى جانب هؤلاء المقاتلين. إما الخسارة فعقاب إلهي سببه نقص الإيمان وذلك على نقيض العقل السياسي المتمرس في التسويات والحلول الوسط والعلاجات الجزئية.
أبعد من ذلك، يعجز صاحب العقل الإيديولوجي عن رؤية اعداء وخصوم من غير طبيعته وعن التعامل معهم بغير منطقه ولغته. فتقفل دائرة تصنيفاته وتحليلاته عليه وتوقعه في صحراء ذاته.
موقع 24