راشد عيسىصفحات الناس

الثلج أيضاً حزن سوري/ راشد عيسى

هنالك دائماً ما هو أسوأ. هذا ما تثبته يوماً بعد يوم المأساة السورية المستمرة. فقد اخترع شيطان النظام السوري ما لا يخطر ببال من أدوات وطرق قتل وتنكيل وإهانة. كلما خطر لنا أن هذا هو منتهى السوء، ظهر لنا على الفور ما يثبت أن لا حدود للمأساة، وأن طرق الموت السوري لا تستنفد. لذلك كان على السوريين، بعدما جربوا كل شيء، أن يستقبلوا بكامل الرضا عواصف البرد والثلج، هم الذين لا يلوون على خيمة ووتد، ولسان حالهم يقول إن ذلك أرحم من الموت ذبحاً تحت السكاكين.

على الفور تدفقت الصور وحملات الإغاثة، كلمات وصور تضمر توقاً خافتاً وحنوناً إلى عالم الصوف والدفء ولمّة العائلة في البيوت الواسعة الوطيدة. “فكر بغيرك”، حملة تستعير اسمها من قصيدة لمحمود درويش، وأخرى تحمل اسم “خيمة تلج ودفا”، وسواها من حملات أو صفحات على الفيسبوك توثق وتحصي وتلم التبرعات، وتدل على موت أطفال حديثي الولادة هنا، وامرأة مسنة هناك، في “الزعتري”، أو على الحدود التركية.

جرياً على عادة السوريين، الافتراضيين خصوصاً، في التعليق المكثف على الأحداث الراهنة وربطها بقضيتهم، بات الثلج عنوان جدل السوريين، وقد أشعل حنينهم إلى قصائد الطفولة السعيدة، وذاكرتهم التي تعرضت للقصف والتدمير، من دون أن يتمكنوا من الاسترسال في أحلامهم، ما دام البرد يحزّ رقاب السوريين على الحدود، وفي وقت كانت العاصفة فرصة لأصدقاء السوريين لرفع طاقات عملهم في المخيمات، كما فعلت “مبادرة العمل للأمل” في مخيم “المرج” في البقاع اللبناني،  كان أعداء السوريين يتربصون بكامل شماتتهم، يتناقلون صور خيامهم تحت الثلج مع تعليقات شامتة كان أبرزها ما قالته إعلامية، أو هكذا وصفها من تناقلوا التعليق مع صورة لمخيم عرسال السوري الذي يغطيه الثلج “الله لا يشيل عن قلبكن، شمتانة للسما”!!.

لكن تبقى صور الثلج مؤثراً دعائياً عمومياً، قد لا يخصّ السوريين وحدهم، صور عمومية يمكن أن تستخدم في أي مكان حول العالم،  مثل دمية طفل ملقاة بين أنقاض  بيت مدمر، وبالعكس قد تسهم تلك الصور بتغطية ملامح المأساة السورية، إلا ما ندر، حين تترك الكاميرا عمومية المكان وتنتقل إلى التفاصيل الإنسانية، من قبيل تصوير وجه طفل باكٍ في البرد، أطفال يغوصون في الوحل بأحذية لا تليق ولا تقوى على مقاومة البرد، قبضات الأطفال تدق أوتاد الخيمة، وآخرون يستلقون شجرة للتحطيب، أمهاتهم يرفعن أدعيتهن للسماء بلا حول ولا أمل.

أكثر ما يلفت صفحات الأطفال السوريين أنفسهم على الفايسبوك، ستجد تعليقاتهم الأولى المحتفلة بالثلج واللعب، لتنتقل سريعاً بعد ذلك إلى صور أترابهم النازحين، البنت التي قالت “أحلى لعب تلج مع أحلى رفقات وأحلى ناس “، سرعان ما أتبعت كلامها المرفق مع صورة لطفل يبكي محاطاً بالثلج، ولا يبدو أنه قادر للوصول إلى مأوى بالقول “إننا نقول الله يبعت الخير، وسنظل نقول، لكن ليس بهذه  الطريقة”.

ليست صور الثلج ما يحتاجه السوريون ليقولوا مأساتهم، فلديهم الكثير من مخزون الصور بالغة المأساوية. صور الثلج تنقلهم، لو أردنا التحدث بلغة الدراما، من المأساة إلى الميلودراما، من تلك الفاجعة الممتلئة بالنبل والألم، إلى فصل صغير مصمم للبكاء والدموع. أحاول أن أصمد قليلاً لأنادي مع كازانتزاكي “لا تبكوا، ولا تصرخوا، لئلا تخفّ أحزانكم”.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى