صفحات الثقافةممدوح عزام

خيال أهل حارتنا/ ممدوح عزام

 

 

“لولا الخيال كنت متُّ”. لن يكون من المستغرب أن تأتي هذه العبارة من امرأة. ففي ظل استحالة إتمام العلاقة بينها وبين الرجل الذي تحبه، تلجأ إلى الخيال كي تضفي على المستحيل صفات الممكن. تبتكر الحكايات وتعيش بهباتها وآليات التعويض المتوفرة بكثرة فيها.

سبق لشهرزاد أن قدّمت نموذجاً علاجياً مماثلاً حين استخدمت الخيال لعلاج رغبة الملك شهريار في الانتقام، بحيث يمكنها أن تقول، فيما لو قيّض لها أن تحدثنا، إن الخيال، خيالها الابتكاري الخلاق، قد تمكّن من تأجيل لحظة الموت، ومن ثم إبعادها عنها.

في المرة الأولى يُبعد الخيال الموت، وفي الثانية يمنعه. وفي كلتا الحالتين، لا بد أن يرتبط الخيال بالحكي. تحكي المرأة العاشقة لنفسها، تؤلف الحكايات، حتى لو كانت أقرب إلى الوهم، كي تبعد الموت، وتحكي شهرزاد المهدّدة، لشهريار الملك، كي تمنع الموت.

ينتصر الخيال في ألف ليلة وليلة على فظاظة الواقع، ويعيد في قصص العاشقة خلقه من جديد. فـ”لا بذل إلا ما تزود ناظر/ ولا وصل إلا بالخيال الذي يسري”، كما يقول علي بن الجهم. وفي كل الأحوال، فإن للخيال مفعولاً استكشافياً، يحاول البشر بواسطته إعادة معرفة الواقع، أو الآخر، دون أن يعني هذا أنها تنتمي إلى حقيقته. “فالآخرون”، يقول ساراماغو في روايته “قايين”، “جميعهم قصص تحتاج لأن تروى”. ولكن كيف تروى؟

يشرح إدوارد سعيد، في “الثقافة والامبريالية”، كيف عمل الخيال الغربي، في الأعمال الروائية، على تقديم صورة متخيّلة للآخر قائمة على أساس تأويلي محض، دون أن تستند إلى معطيات واقعية.

بالمقابل تقدّم اللحظة السورية الراهنة وجهاً جديداً عن الخيال الذي يتحدث عن الآخر. تخلق النزاعات والحروب القائمة متخيّلاً، أو متخيّلات، يسعى الناس من خلالها إلى إعادة رسم صورة الآخر، أو إلى إعادة فهمها. لم تقترب الرواية السورية من هذا الباب، وقد يحتاج المرء إلى إعادة قراءة المتخيل الروائي في ضوء ما يحدث اليوم. غير أن الخيال الشعبي يعمل بديناميكية أسرع. إذ يمكن تتبّع المحكي الشفوي الذي يؤلف القصص عن الآخر الذي انفصل عنه. يكتشف السوري أنه لا يعرف السوري الآخر، في حين يمنع دخان المعارك رخصة الاقتراب، أو يغلّف الآخر بضباب الغرابة.

هذه حقيقة واقعية صادمة هنا، إذ يسمع المرء بشكل شبه يومي كيف يعيد الناس سرد الحكايات عن الآخر. وفي حين يقدم الواقع مئات المعطيات، من حوادث الخطف والاختفاء والقتل والموت، فإن المخيلة تعيد إنتاج تلك الحوادث في حكايات مضافة، قد تتعدد بتعدد الرواة الشفويين. وقد يكون هذا عادياً من حيث التقنية، إذ يصعب معرفة حقيقة ما جرى أو ما يجري. لكن ما هو غير عادي إنما هو الاتجاه، إذ ينم عن خوف من “الآخر” يفتقر إلى العقلانية، أو يرفض التدقيق في الحقيقة، ويرى أن الآخر يرتدي صفات الغيلان.

مرةً كتب نجيب محفوظ: “لا أصدق خيال أهل حارتنا”. وقد نحتاج اليوم إلى قوله هذا كثيراً، فيما إذا كنا سنبحث عن خيال يُبعد الموت، أو يمنعه.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى