صفحات العالم

.. وسقط طاغية آخر


سليمان تقي الدين

طاغية عربي آخر ينتهي تاركاً خلفه شواهد هائلة عن تدمير بلده وشعبه مسهلاً بذلك استجارة الليبيين بالأجنبي المستعمِر. قضى حكم الطغيان في ليبيا «بنيران صديقة» حين صارت شرعيته مرتبطة برضى الغرب عنه أو مهادنته. بدأ الحاكم الليبي مشعوذاً باسم العروبة والوحدة والتحرير وانتهى مهرجاً متنكراً في زي أفريقي. قدّم للعروبة ما شوّه بعض العقول والضمائر وأدوار بعض الجماعات لتسويق صورته كثائر. انكشف المعدن الأصلي لهذا المخادع حين ظهر كإرهابي حقيقي عربياً ودولياً. قَتَل وظل يقتل حتى غرق في الدماء.

من عباءة جمال عبد الناصر انتقل إلى حضن أنور السادات. كانت مهمته الأولى أن يساهم في إفشال الانقلاب التقدمي في السودان على جعفر النميري. تورّط في الحرب اللبنانية وفي تمويل مجموعة من دكاكين السياسة اللبنانية والفلسطينية وإطلاق شعارات طائفية تدعو المسيحيين إلى الإسلام أو الرحيل. اختطف ضيفه الإمام موسى الصدر فتصرف بلا مسؤولية حتى كاد يتسبب في فتنة لبنانية لبنانية ولبنانية فلسطينية. أدار ظهره للجيوش العربية في حرب تشرين 1973 وقدّم لها أقل مما يستطيع من الدعم المادي بذريعة أنه لم يستشر في قرارها. وذهب بشعاراته السياسية ذات اليمين وذات الشمال حتى انتهى داعية لدولة يهودية ـ عربية في فلسطين ابتدع لها اسم «إسراطين». جعل ليبيا مملكة عائلية وأقفل حدودها عن العالم وحوّل سلطته «الشعبية» إلى مهزلة جماهيرية تحكمها المخابرات والمرتزقة. أسوأ ما تميز به حكم الطغيان هذا أنه كان يحتقر شعبه كما كل طاغية، ويعتقد أن الناس ملك له ولأسرته وجمهور مستعبد لأهوائه ورغباته.

في كل حال لا نقرأ المشهد الليبي منفصلاً عن الثورة العربية المعاصرة. تتردد أصداء الثورة من بلد إلى آخر وتعرف الشعوب كيف تؤدي فعل التضامن والتعاون بإنجاز مهماتها الوطنية. ويعرف الحكّام أن مصائرهم متشابهة. البشائر والنذائر هي نفسها في العالم العربي لأن إحساس الشعوب بوحدتها أكبر من كل سياسات التفرقة. ليس أملاً زائفاً في مصير الثورة العربية حين نرى طلائع الأفق العربي لاستمرار الثورة في الثورة من مصر خصوصاً.

لم يكن خارقاً أن يتطوع شاب مصري لنزع علم إسرائيل أو أن تهب جموع في أكثر من محافظة تدعو لرد الإهانة الإسرائيلية لكرامة مصر الوطنية ولجيشها. حكومة مصر وقيادة جيش مصر هبّتا دفاعاً عن هذه الكرامة وأعلنتا أن دم المصريين ليس رخيصاً.

ليس مهماً ما تفرضه موجبات السياسة والعلاقات الدولية من صياغة للمواقف. المهم أن الثورة العربية لا يمكن أن تكون في أي بلد عربي «ثورة ملونة» أو مسرحية سياسية يخرجها الأميركيون حتى لو رقصوا على خشبتها وحاولوا مصادرة شعاراتها ومسارها. كاذب القول إن الثورات العربية يصنعها محرّكون معارضون من خارج. الثورة يصنعها الحراك الشعبي الواسع الذي يدفع كلفة المواجهة ويتصدّر آخرون وسائل الإعلام والمؤتمرات. هذه المعادلة فرضتها أنظمة الاستبداد التي ألغت الحياة السياسية العربية. ما ظهر بعد خروج المواطن العربي إلى الشارع أننا سمعنا خطاباً سياسياً يعاكس كل ما أشيع عن رغبات الناس ومشاعرهم. مصر لم تفاجئنا أصلاً لأن وطأة اتفاق كامب ديفيد خلال ثلاثة عقود لم تقدر على فرض التطبيع الشعبي ولم تقدر على إيجاد قطيعة بين شعب مصر وقضايا العرب.

الحاكم الذي يعتقد أن شعبه بحاجة إلى وصايته ولا يعرف طريقه من دون قيادته هو حاكم شريك في ثقافة الاستعمار والوصاية على الشعوب. ليس من زعيم أو حزب أو قيادة أو نظام يمكن أن يكون أكبر من شعبه وبلده أو أكثر وطنية أو إخلاصاً.

قضى الأنبياء والقادة والمفكرون وانتهت أحزاب وسقطت عقائد وحضارات وظل البشر يصنعون تاريخهم ويبنون حياتهم ومستقبلهم. لا فرعون يحرس مصر ولا حاكم عربي آخر حتى لو كان بحجم محمد علي أو صلاح الدين أو عبد الناصر. يتعرض تاريخ الشعوب إلى موجات من الخداع وتتعرض الثورات إلى السرقة والتحوير ومحاولات المصادرة. لا حتميات في التاريخ حتى لو كان مشفوعاً بالقداسة الدينية. فلا اليهودية أو المسيحية أو الإسلام عبر آلاف السنين إلا ما فعله أتباعها.

ليس من حاكم صنع ما صنع إلا بفضل شعبه. غالباً لا تخطئ الشعوب، وغالباً ما قامت بتصحيح أخطائها.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى