صفحات العالم

الخيارات العربية في الأزمة السورية


صالح عبد الرحمن المانع

وصلتْ إلى دمشق بعد تلكؤ طويل بعثة المراقبين التابعة للجامعة العربية، وقد سبق وصول هذه البعثة إرسال فريق لوجستي يتكون من أحد عشر عضواً للتمهيد للزيارة، وتسهيل أعمال البعثة. وكان أول أعمال المراقبين هو زيارة مدينة حمص للتأكد من التزام النظام السوري بسحب قواته من شوارع المدن، ووقف العنف ضد المدنيين، وإطلاق سراح السجناء السياسيين.

ولم يلتزم الجانب السوري بهذه الشروط التي فرضها على نفسه كجزء من الاتفاق. فالدبابات السورية ظلت في الشوارع وإن غيّرت أعلامها واستبدلتها بأعلام الجمهورية السورية الخضراء القديمة، ولم يتوقف القناصة والشبيحة عن قتل المواطنين. ففي اليوم الأول لوصول هؤلاء المراقبين سقط اثنان وأربعون مدنيّاً سوريّاً معظمهم في مدينة حمص، على رغم التطمينات التي أطلقها رئيس الفريق العربي، محمد أحمد الدابي.

ويتساءل الآن كثيرون عن مهمة المراقبين العرب الموفدين إلى سوريا، وهل ستكون من مهامهم تهدئة الأوضاع السياسية والأمنية في البلاد، أم السماح بالاحتجاجات السلمية ومنع قيام “الشبيحة” وعسكر النظام بقتل هؤلاء المحتجين، بل ما هي بالضبط مهام هؤلاء المراقبين؟

للإجابة على هذا التساؤل، ينبغي ألا نتوقف عند آليات الإجراءات، بل ربما يتعين أن نذهب بدون مواربة إلى الأهداف السياسية. فالهدف الأساس من إرسال المراقبين العرب إلى سوريا هو إيجاد مناخ مناسب لتحويل النظام من نظام أمني شبه عسكري إلى نظام ديمقراطي، أو قريب من الديمقراطية، بدون سفك المزيد من الدماء. ويعني مثل هذا التحوّل تحييد دور الجيش والمؤسسات الأمنية في سوريا، التي أصبحت، أو أصبح معظم منتسبيها، ما عدا أفراد “الجيش السوري الحر”، أداة للقسر في يد السلطة الحاكمة.

وربما أتاح وجود هؤلاء المراقبين على الأراضي السورية ضغوطاً أكبر على النظام السوري، وإحداث بعض التصدّعات بين أفراد النخب السياسية، كما كان الحال في ليبيا. وتذهب بعض الطروحات إلى أنّ تزايد حجم العنف في سوريا قد يقود إلى انقلاب عسكري، فالتاريخ السوري حافل بمثل هذه الانقلابات، وخاصة في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي.

ومثلما يضغط الشعب السوري من خلال تظاهراته اليومية من أجل الحصول على الحرية، فإن أدوات القمع المتاحة بيد النظام من جيش و”شبيحة” وأمن، تستبيح دماء السوريين بشكلٍ يقلق القاصي قبل الداني.

والمطلب الأول هو وقف حمام الدم اليومي، وسماح أجهزة الأمن السورية للمواطنين بالتظاهر السلمي. غير أنّ القمع المتواصل قد أدّى حتى الآن إلى انفلات زمام الأمور، وشاهدنا تفجيرين ضخمين في مؤسستين أمنيتين في الأسبوع الماضي، راح ضحيتهما العديد من الناس.

كما شاهدنا العنف ينتقل إلى رحاب الجامعة في دمشق، والتي تعتبر مكاناً شبه مقدس لأنه مخصص للعلم والسلام.

وإذا ما زاد تعنت النظام وعنفه فقد يؤدي ذلك إلى حرب أهلية هوجاء. ولهذا فإن نظام التهدئة الذي تنتهجه الجامعة العربية في الوقت الراهن لن يكون العلاج الساحر لإنهاء الأزمة السورية، طالما لم تكن الرؤية في نهاية النفق واضحة.

ومن الواجب إذن ألا يقتصر عمل الجامعة العربية على النوايا الطيبة والآليات المحدودة، بل يتعين أن يشمل ذلك رؤية مستقبلية تضمن انتقالاً سلميّاً للسلطة، بحيث تصبح الجامعة العربية وصيّة على النظام خلال المرحلة الانتقالية، وأن يُدفع بمبادرة تشبه المبادرة الخليجية في اليمن، على مستوى عربي شامل. وأن تكون هناك جداول زمنية محددة لتنفيذ المبادرة العربية، وأن يكون لها دعم ومساندة من مجلس الأمن والقوى الكبرى، بحيث يشعر النظام السوري بأنه لن يتمكن من التخلص من استحقاقاته أمام شعبه، وأمام الرأي العام العربي والعالمي.

وبمعنى آخر، يجب تطوير عمل ومهام بعثة المراقبة العربية لتصبح أساساً لتشكيل قوات حفظ سلام عربية في سوريا. ويجب ألا ننتظر لبدء حرب أهلية هناك حتى نرسل مثل هذه القوات. فالمطلوب أن تكون لجامعة الدول العربية مصداقية، كما كانت لها مصداقية في ليبيا. فالنظام السوري الحالي، مثله مثل نظام القذافي، قد فقد شرعيته في أعين مواطنيه، وفي أعين المواطنين العرب الآخرين. وصار من الواجب أن تتنحى القيادة السورية الحالية لقيادة سياسية جديدة مُنتخبة بانتخابات حرة ونزيهة. وأن تكون الجامعة العربية جزءاً من عملية ولادة نظام سياسي جديد عادل في سوريا.

وإذا غابت الرؤية السياسية عن الجامعة العربية وآلياتها الحالية، فستموت هذه الجهود وستلتفّ الحكومة السورية على هذه المبادرة، كما التفت على مبادرات سابقة، حيث اكتسبت قدراً هائلاً من المعرفة بالمراوغة والتحايل. وبذلك ستخذل الجامعة المواطن العربي بعد أن اكتسبت مصداقية جديدة ولدت من رحم الربيع العربي.

والحال أن التقرير المرتقب لبعثة المراقبين سيكون في شكل تقرير وتقصٍّ للحقائق، ولكن المطلوب الآن هو خريطة طريق واضحة لما بعد هذا التقرير. بحيث تكتسب هذه الخريطة موافقة المواطنين السوريين. ومن المحتمل ألا تقبل الحكومة السورية بمثل هذه الخريطة، فقد أوغلت في قتل شعبها، كما يمكن أن يعترض سبيل إقرارها بعض الأنظمة العربية. غير أن التغيير قد أزف، حتى لو تعنت النظام الحالي وحاول ردع شعبه، فخوف الشعب السوري من آلة القمع قد انتهى ولم يبق إلا التغيير، والانفتاح على المستقبل.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى