صفحات المستقبل

حين رفع المحقق عصابة العينين/ ضحـى حسـن

 

داخل الفرع الأمني، أجلس معصوبة العينين، مكبّلة اليدين. هناك شخص آخر يدور حولي، يستجوبني بشكل مستمر، صوته غليظ، يوجّه الاتهامات، ويضرب رأسي ووجهي بين الحين والآخر. أظن أنه رجل طويل، نحيل للغاية، يرتدي بنطالاً أسود، وقميصاً أبيض مخطّطاً بالأصفر، شعره أسود خفيف، يبدو أنه يضع زيت الزيتون على شعره، إذ أستطيع أن أشمّ الرائحة جيداً. المحقّق يتحدّث وأنا أصغي بتمعّن، أحاول أن أحدّد أجوبتي، بينما يشكل خيالي وجهه.

الخيال والمحقّق

وضع المحقّق يده على رأسي والأخرى على كتفي، شعرتُ بخاتم غليظ يحفر جمجمتي، أخذ يضغط بشدة، صوته قريب جداً من أذني، عيناي ما زالتا تحاولان أن تبصرا شكل هذا الرجل. يختفي إدراكي بالوقت في هذه الوضعية. تهدأ حركة حدقتي، وتغرقا في السواد. شعرتُ أنّي قفزت إلى الجهة الأخرى، إذ رأيتُ فتاة معصوبة العينين مكبلة اليدين إلى الخلف، رجل طويل نحيل، شعره خفيف مغطى بالزيت، ويدين غليظتين، يضغط بهما على كتف ورأس الفتاة، استطعت رؤية أصابعه والخاتم الذهبي العتيق على يده اليسرى، عيناه البنيتان، وبشرته الحنطية، شارباه الرفيعين، وأنفه الغليظ، وهالة سوداء من حوله.

كف البصر

عندما يتم إجبارك على عدم الرؤية، تشعر باضطراب شديد. الظلام حالك، وأنت في أكثر الأماكن رعباً، تحرّك حدقتيك بتواتر عالٍ، كأنك تحاول أن تخترق قطعة الجلد تلك، وأن تبصر ما يحدث حولك، شكل الغرفة، عناصر الأمن، السجان، المحقق.

تستنفر أذناك، وكأنها تحاول أن تمتص كل الأصوات حولك، إذ تشكل عبرهما صورة افتراضية في دماغك، والتي تتحول بفعل الظرف إلى صور وحشية، بشعة وقبيحة.

شلّ الحركة

يتم شد اليدين إلى الخلف، وتقييدهما جيداً، في تلك اللحظة، تشعر وكأن يديك ستنفصلان عن جسدك في أي لحظة. أصبحتَ مشلولاً بشكل كلّي، على الرغم من أن الأمر مقتصر على يديك وعينيك فقط.

المحقق

سأفترض أنني أخذت دور المحقق في هذه الحالة. المرحلة الأولى هي أن أجعل سجيني يشعر بالخوف، اللاأمان، الانهيار، التدمير النفسي وإعادة السجين لردة الفعل الطفولي لفكرة العقاب والثواب، بالتالي علي ان أجرده من محيطه، كف البصر.

فحاسة البصر يعتمد عليها الانسان بشكل كبير لاستيعاب ما حوله، كما يبني عليها ردات الفعل ومشاعره. إذاً أرفع عتبة المجهول عند السجين، مع دعم كف البصر، بالظروف المناسبة، الصراخ والتعذيب والتهديد، كما سأجبره على الجلوس على الأرض بوضعية الجنين طوال الوقت.

المعتقل (1) والمحقق

“حطولي كيس نايلون وربطولي ايدي، اخدوني على مفرزة أمنية بمعرة النعمان بإدلب، وحطوني ببرميل مازوت معبّى نصو، بعدين أخدوني عند المحقق”، يقول محمد. وأضاف: “كنت عم حاول اتخيّل شكلو، رجال قصير وسمين وأصلع وعندو دقن، متل شكل الشبّيح، بس بعدين تعودت عليه، ضربني كتير. بس كمان حكينا كتير، صارت علاقتنا واضحة. وكنت خايف روح لفرع تاني، أول مين واجهت معو مشاعر الخوف والقلق والتوتر”.

عمل محمد في شهر آذار 2012، كمصوّر لوكالات عدة من أجل نقل الحراك الشعبي في سوريا داخل مناطق الشمال السوري. اعتقلتُه قوات الأمن وسُجِن في مفرزة الأمن العسكري بمعرة النعمان، ثم نقل إلى فرع الأمن العسكري في إدلب، والشرطة العسكرية في حلب، واللجنة الرباعية في حمص، والشرطة العسكرية في القابون بدمشق، وفرع فلسطين، فرع الدوريات، وسجن حمص المركزي، فترة الاعتقال الكاملة عام ونصف.

المعتقل (2) والمحقق

يمسك عنصر الأمن الحلوى من يده ويلقيها بعيداً. يهجم عليه عناصر الأمن، الذين قاموا على الفور بتقييده ووضع عصابة حول عينيه. يصل رائد إلى فرع “الجوّية” شبه مغمى عليه من شدة الضرب الذي تعرض له طوال الطريق.

“شبّحوه”، كانت هذه المرة الأولى التي يسمع فيها رائد صوت المحقّق. اللقاء الأول مع الرجل الذي لازمه طوال 6 أشهر، وبعد دقائق من الضرب فقد رائد وعيه كلياً، ليعود ويلتقي بـ”صوت” المحقق بعد 3 أسابيع في المنفردة.

“لما بلّش يصرخ ويستجوبني، قدرت اتخيل شكلو من صوتو، ناعم ورفيع، وحسيت إنّو عم يحاول يعصّب ويصرخ. يعني عم يعمل المطلوب منّو كمحقّق بفرع مخابرات، كان طول الوقت عم يأمر العناصر يضربوني، ويعذبوني، وأحياناً كان يضربني هو”. يقول رائد. “أنثاء التحقيق كنت أجلس جاثياً أو في وضعية الجنين، وكذلك داخل الزنزانة”.

اعتُقِل رائد على الحاجز مرّتين بسبب هويته، المرة الأولى في فرع الخطيب لمدة 9 أشهر، والمرة الثانية في فرع الجوية لمدة 6 أشهر.

حيوان في قفص

لنفترض أن المحقق في الحالات السابقة، أشعَر المعتقلين بأن هناك من جرّدهم من حياتهم الاعتيادية (الحياة الانسانية)، فمن الممكن أن يكونوا مثل حيوانات تم اصطيادهم من البرية، وضعوا في قفص، يطعمونهم حين يريدون، يضربونهم كي يخضعوا لهم، أي أنهم (مخلوقات تم اصطيادها وسجنها، وتعيش الآن تحت رحمة الصياد).

قد يكون من الممكن إرجاع هذه الفرضية إلى الأسرة، لنأخذ على سبيل المثال: الأب القاسي والطفل. يعنّف الأب ابنه ذا الـ3 سنوات بشكل مستمر نفسياً وجسدياً، لكنه في أحد الأيام يدخل حاملاً هدية صغيرة ويقدمها لابنه دون أي سبب وهو يبتسم، ماذا يشعر الطفل تجاه والده في هذه اللحظة، وماهي ردة فعله؟ في العادة يبتسم له بالمقابل، يشعر بالقليل من الارتياح مع والده والرضا تجاه نفسه.

المحقق يكشف البصر عني

في التحقيق الأخير، وبعد تكرار الحالات السابقة، يطلب المحقق من أحد العناصر المتواجدين في الغرفة أن يمسح وجهي الملطخ بمحرمة نظيفة، “شيل عن عيونها”، وكأنه صوت رجل آخر، يرفع العصبة، افتح عيني نحو الصوت.

ثلاثة رجال خلف المكتب، من في المنتصف هو المحقق، رجل سمين، وجه لطيف، مبتسم، ودون أن أفكر بشيء بادلته الابتسامة بشكل لا إرادي، دون أن يغير هذا مشاعري تجاهه، لكن ردة فعلي أي (الابتسامة) أربكتني قليلاً، وشعوري بالاسترخاء بعدها.

“انت متل بنتي، عندك مستقبل وحياة لا تضيعيها بهيك قصص، نحن هون كلنا عيلة”، قال المحقق.

كشف البصر عن محمد

“بعد ما حقق معي كذا مرة بشكل عنيف، شال العصابة، قبل ما استوعب أي شي، جبلي مي وسندويشة بيض، وسألني بلطف اذا كنت منيح، وقتا رجعت بلش حسّ بشوية أمان”، ويكمل: “صار يخبرني عن مرتو وولادو وعن الجار اللي عم يطبق مرتو، وما في يروح على الضيعة لأنو بالخدمة الإجبارية، وعلمني كيف لف دخان، لأنو الدخان العادي غالي، وضيفني سيجاير”. وأضاف: “حتى أول ما رفع عن عيوني، ابتسلمي، وانا ابتسمتلو، ماعم إفهم ليه”.

كشف البصر عن رائد

“بعد كذا تحقيق، اخد كلمة السر تبع الفيس بوك وصار يقلب بالصور، وبعدين قلي قرب وشيل عن عيونك وصار يسألني عن الصبايا الموجودين، وإنو إذا كنت بعلاقة حب مع حدا منّن، وقت خبرتو عن صبية كنت حبها، سألني اذا عزمتها على العشا ورقصنا”، ويكمل” صار بعدين يضيفني دخان وقلتلو عن علاقات الحب، وكيف كنت عيش، ضيفني برتقال، ودخان، تغير كل شكل التحقيق، كان هالشي كتير غريب، وحسيت اني ارتحت شوي”.

المحقق

آخذ دور المحقق من جديد. عليّ الآن أن أدخل في المرحلة الثانية، وهي أن أعيده بشكل بسيط، إلى ما يشبه الحالة الطبيعية بأدنى درجاتها، سأرفع عصابة العينين وأسحب عنصرين من عناصر دعم كف البصر، الصراخ والتعذيب، وآخذ شكلاً قريباً إلى حدا ما من التواصل الانساني، معه كصديق، كابن، كأخ، وذلك بشكل مفاجئ، وكأنّي أعطيه قبل أن يموت من العطش القليل من الماء، أو كالطفل الصغير الذي عاقبته بحبسه في غرفته، وضربه لمدة شهر كامل ومن ثم أحضرت له هدية صغيرة، وربّتُّ على كتفه.

لكنه بعد المرحلة الأولى وعلى الرغم مما قمت به الآن، يدرك تماماً أني قادر على إعادة ما قمت به سابقاً. وأن شعوره بالارتياح تجاهي سيجعله يخضع لي بشكل أو بآخر. كما سيختلف شكل علاقته معي، أنا لم أعد بالنسبة لسجيني مجرد محقق بل أكثر من ذلك.

خروج الجنين

يأخذ المعتقَل مجبراً بأوامر من المحقّق وبسبب ازدحام المكان أيضاً وضعية الجنين أثناء جلوسه، والتي يعتاد عليها بعد فترة. هذا ما حدث مع رائد، لكني في الآونة الأخيرة بدأت ألاحظ محاولاته في الخروج من وضعية الجنين تلك.

يجلس رائد منحني الظهر، رأسه مطأطأ قليلاً، بعد لحظات أراه وقد شد ظهره ورفع رأسه، يسترخي قليلاً فينحني ظهره مجدداً، لكنه يشد ظهره حتى يستقيم، يرفع رأسه، يعيد هذا مراراً وتكراراً.

موقع لبنان ناو

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى