صفحات العالم

سوريا.. «الرجل المريض»


نصري الصايغ

Iـ سوريا.. في عامها الأول

شبه سنة مرَّت على لحظة الاندلاع. استبعد النظام أن تكون سوريا على لائحة الحراك. قرأت السلطة الحدث التونسي والتحول المصري والانفلات الليبي، بطريقة خاطئة.. وحصل ان دخلت سوريا في مرمى الثورة بسرعة لم يصدقها أهل النظام، ولا صدّقها حلفاؤه.. أخطأوا في القراءة وفي التقدير وفي الحساب. ولهذا، سوريا اليوم، على تخوم عامها الأول من المحنة الدامية، ولا علامة تشير إلى خلاص قريب. المتفائلون جداً يقولون: فلنر بعد خمس سنوات.

لا فائدة من تكرار القراءة الصحيحة الأخرى: تكلس النظام، عصيانه عن التغيير، اعتماده على مثلث الأمن ورجال المال ورجال الدين… ولم يعد مفيداً أيضا تكرار: هذه ثورة حقيقية، وتواجه بتكرار كذلك: بل هذه مؤامرة خارجية، تهدف إلى حرف سوريا عن الممانعة، أو، تقسيم سوريا، أو…

انتهى كل ذلك. جدل غير بيزنطي طبعاً. هو جدل دموي، دفع فيه الحراك شهادات غالية، ودفع فيه النظام خسائر لم تكن تخطر في باله، مذ اعتبر الاستقرار المؤبد فضيلة سياسية دائمة يمكن الاعتماد عليها… انتهى ذلك كله.. سوريا الآن، برغم اهتمام العالم، كل العالم، بما يحدث فيها، وبما يمكن أن يصل إليها وتصل اليه، أسيرة مرضها الجديد، وهو مرض بانت أعراضه كلها، وعنوانه: لا حل بعد ولا شفاء.

سوريا اليوم. هي الرجل المريض.

لما بلغت السلطنة العثمانية حالة العجز عن التغيير، برغم المحاولات الجادة، التي بذلها رجال نهضة وحداثة وتطوير من أتراك وعرب، ولما راحت السلطة تشتري الوقت لإنقاذ نفسها من استحقاقات كثيرة، أبرزها: وضع دستور للبلاد، إطلاق الحريات، تحديث المؤسسات، الاستجابة لمطالب الشعوب والقوميات المنضوية تحت لواء السلطنة أو في قبضتها… ولما راهنت على شراء الاستقرار، بقفزات سياسية شبيهة بانقلابات القصور، اشتدت الرغبة لدى الدول الكواسر في الغرب، لتشديد الضغط على اسطمبول، ريثما تنضج التفاحة وتسقط في يد من تأهل لقطف الثمرة.

كانت تركيا يومذاك، الرجل المريض الذي تتآكل سلطته على أرضه المترامية في آسيا وأوروبا وأفريقيا… وكانت الثورات المتنقلة من دول البلقان إلى اليونان إلى أرمينيا إلى مصر إلى بلاد الشام وبلاد الحجاز، تنقض على الرجل المريض، وتقضم منه أطرافه، تاركة له بر الأناضول، لصراع في داخل البيت العثماني، وليفوز به في النهاية، جماعة العسكر، أصحاب الحلول النهائية الجذرية، وأصحاب الحسم العسكري، وأبطال التبرع بدخول الحرب الكونية.

لم تجد تركيا حلا لها من الداخل، وفشلت في إيجاد حل للقوميات والاثنيات، وفشلت في تغيير «طبائع الاستبداد» عندها، فسقطت، وتبعثرت «ممتلكاتها»، بين سايكس ـ بيكو، في سوريا الطبيعية، إضافة إلى سقوط مناطق عزيزة على تركيا، فتناوبت على احتلال أجزاء منها، كل إيطاليا وفرنسا واليونان.

II ـ الرهانات الخاسرة

الجميع في مأزق. عنق سوريا في الزجاجة، وحتى اللحظة، ليس في مقدور أحد، من الداخل أو من الخارج، ان يدق العنق أو يحطم الزجاجة.

بعد ما يشبه السنة، وبعد اعتماد سياسة القبضة الامنية، بلوغاً إلى مرحلة الحسم الأمني (مهما بلغت الكلفة البشرية)، تبين أن المزيد من الأمن، يعادل المزيد من التدهور، والمزيد من العسكرة، نقل التظاهر السلمي إلى مرحلة العمل المسلح على طريقة حروب العصابات: «أضرب واهرب».

وبعد حراك شعبي (يسميه النظام مؤامرة) بدأ يسيراً وزهيدا في درعا، تحول إلى حراك دام متعدد، وكلما تقدم وعظم شأنه اصطدم بحاجز السلطة التي تزداد تشدداً وعسكرة. ونتيجة لذلك خرّ الحوار صريعاً بسرعة. كانت السلطة ترفض الحوار، ثم اعلنت المعارضة رفضها كذلك. كان الدم هو اللغة السائدة، وسقطت سوريا في العجز. فلا السلطة، مهما بالغت في القمع، ولا المعارضة، مهما تفوقت في الصبر والمجالدة والعطاء، ثم العسكرة، قادرتان على الحسم. النظام بما لديه قوي، والمعارضة بما ليس لديها قوية أيضاً.

مراهنة النظام على الحسم العسكري، لم تثبت جدواها، ومراهنة المعارضة على إسقاط النظام، لم تثبت فعاليتها. الاثنان في عنق الزجاجة.

لا حل من الداخل، سوريا مريضة، ومرضها لا نهاية له. لا حياتها ممكنة، وموتها ليس قريبا. هي في منزلة الشقاء السياسي.

III ـ سراب الحلول

لا جديد يأتي من الداخل. المعركة مستمرة. والدم حصاد الفشل، والخوف ثمرة السقوط في المجهول.

ولا حل يأتي من الخارج كذلك، سوريا مريضة والاقليم أشد مرضاً. العرب إما في امتهان الانتهاز أو في محطة الترقب. ليس فيهم سيد. الجامعة تمثل أدواراً يكتبها الآخرون. لا تجيد الصياغة، وتعرف فقط كيف لا تخطئ في الاملاء. لا أمل يرجى. الخطة العربية بلا قدمين. تعرج على أنظمة عربية اسماً، أميركية فعلاً، وتتعكز على مجتمع دولي، مصاب بالحول، وازدواجية المعايير.

ولا حل يأتي من غير العرب. تركيا وإيران، يتنازعان تركة الرجل المريض. إيران تريد الاحتفاظ بسوريا، وتركيا تريد سوريا بوابة لها، عبر تسليط من يشبهها، علها بذلك تقيم التوازن الاقليمي بينها وبين إيران. ويتداخل العامل الجيو استراتيجي مع العوامل المذهبية، والسياسات الخارجية، وتتحول سوريا إلى مرمى: النظام يضرب المعارضة بقوة، مؤيداً بالدعم الإيراني المباشر والقريب، والمعارضة تضرب عبر كر وفر، مؤيدة بالدعم التركي، إلجاءً وتدريباً وتسليحاً، فيما التمويل تتكلف به منظومة الدفع النفطي والاعلامي في دول الخليج العربي.

لا حل يأتي من تركيا أو إيران. فيما يعلو صوت الضحايا، على إيقاع القبضة الأمنية، وبورصة الاعلام المنحاز والأعمى، وانتظارات الدول الكبرى.

ولا حل يأتي من مجلس الأمن… روسيا التي غُدِرَت في ليبيا، وأضاعت فرصة التعويض على خسائرها هناك، مستشرسة في الحفاظ على علاقتها بسوريا… سوريا بوابة موسكو الأخيرة إلى المنطقة. سوريا حلقة وصل وفصل. تصل روسيا بمياه المتوسط والخليج، وتفصل بين تركيا وبعض الدول العربية.. إيران لاعب أول في سوريا وروسيا لاعب أقوى في سوريا. والحليفان يواجهان، مع النظام، تحالف المعارضة مع قوى الاستئثار الدولي، ومنظومة التخلف العربي… ولم يفز أحد حتى الآن.

IV ـ فات الأوان؟

يعاني الرجل المريض سكرات لا تميته قبل أوانه. من علامات المرض، تكرار النوبات بقوة وحرارة وضغط أكبر. لذلك، تتكرر نوبات درعا وحمص وحماه ودير الزور وريف دمشق… وأحيانا يصاحب التكرار، انتقال العدوى إلى أمكنة نائية، كان يظن انها بريئة من «فيروس» الثورة…

من علامات المرض، تكرار التظاهرات التي أنتجت سلمية مطعونة بقوى عسكرية، تضرب وتهرب. ويتحول التظاهر، لتكراره، إلى استدعاءات مذهبية.

حرب لبنان التي بدأت في عين الرمانة، انتقلت، بسبب طبيعة القوى المتحاربة، إلى حروب طائفية ومذهبية وقومية واشتراكية وليبرالية ثم تحولت إلى «حرب الجميع ضد الجميع»، وتدخلت فيها قوى عربية عظمى وصغرى، ومنظمات فلسطينية من كل لون، ودول أجنبية مختلفة، وتوّجت بدخول اسرائيل واحتلالها بيروت وتحوّلها إلى عامل سياسي شديد الحضور في رأس الهرم السلطوي في لبنان.

كان لبنان يومها، الرجل المريض، وفي تلك الحروب، قتلت كل القضايا والنبيلة، وفازت فقط، القضايا الخسيسة، ولا زلنا نعاني اليوم من إفرازاتها، أحقاداً وفوضى ودولة مخلّعة الأوصال.

من علامات المرض الدائم والمستفحل في سوريا، أن القوى العسكرية المنتشرة تعاني من خسائر ميدانية وفرار لعديد، بلا عتاد، من مذهب واحد، يشكلون عسكراً يتصرف برد الفعل، وهو أسوأ السياسات على الإطلاق. وازدياد هذه الظاهرة، يبذر الشكوك بين أفراد القوى المسلّحة، فتتصرف غير مأمونة في صدرها أو في ظهرها.. من علامات المرض الدائم، انعدام فعالية أي علاج سياسي أو أمني، في وقت تتدهور فيه صحة الاقتصاد، وصيغة «التعايش» و«المدن الآمنة»، تهجس بانتقال العدوى إليها.

فات الأوان.

الأغلاط التي ارتكبت في القراءة، منذ البداية، نقلت سوريا من دولة مواجهة مع العدو الإسرائيلي، إلى دولة مواجهة مع شرائح من شعبها… ولم يحن بعد تعداد مجمل الخسائر.

فاوت الأوان. لا وقت لغير انتظار الأسوأ. من كان يظن ذلك قبل عام؟

سوريا الماضي القريب أفلت. لا عودة إلى الوراء.. سوريا الراهن قطعت مع كل الماضي. تعيش الانهيارات بفداحة السقوط، بلا وصول إلى القاع.. سوريا الغد! من يستطيع ان يتعرف عليها بعد هذا الركام، بعد هذه الآلام، بعد هذه الأحقاد، بعد هذه الاستحالات، بعد حمص ودرعا وحماه و… و…؟

لا أحد.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى