صفحات سورية

سورية إلى أين؟

 


علي محمد

العقد الماضي كان كابوسا مستمرا..

كل صباح أخبار عن قتلى وجرحى في العراق وفلسطين وأفغانستان..

كل مساء أخبار عن معتقلين في هذا البلد العربي أو ذاك..

كل صباح أخبار عن تراجع مساحة الحريات..

كل مساء معلومات عن نمو واثق للفساد وللفقر..

لم نصل لما نحن عليه صدفة، فطوال قرون كان جل الصراع السياسي في البلدان العربية والإسلامية يدور حول السلطة فقط، ومن يصل للسلطة يستخدم نفس أدوات السلف من حيث الجوهر. تآكلت أو حتت قيم المجتمعات والأمة بفعل أزاميل الساسة عبر ذلك الزمن المديد، وإذ يفترض أن يكون لكل أمة محمية تضم جدرانها ما يحمي وجودها وهويتها وقدرتها على إنتاج حضارتها، محمية لا يسمح لأحد، كائن من كان، باللعب عليها أو باستخدامها في السياسة أو في غيرها، فإن الواقع العربي المعاصر يفتقد حضورها، وإن كانت ثورتا شباب تونس ومصر قد تلمستا ضرورة بناء تلك المحمية، فإن القوى المضادة جعلت من الصراع حول قيامتها هو الرئيس.

هو خلل بنيوي، أنتجته تكفيرية تتهم كل محاولة للتحرر منها بالفتنة، عمرها من عمر انتقال السلطة على يد معاوية من الملك إلى الطغيان، وبيت قصيد الفرد والأمة وواسطة عقد مطالبهما وآمالهما هو الخروج من ذلك الواقع.

في لسان العرب كَفَرَ: سَتَرَ، وكفرت: سترت، والكفر هو التغطية؛ يقال للمزارع: ‘كافرا’ لأنه يغطي البذر بالتراب. وينعت بالكافر: الظلم والليل والبحر والسحاب المظلم والزارع ولابس الدرع، أي أن الكفر فعل (عمل) وليس موقفا فكريا، وقد يكون إيجابي القصد والمردود.. أو العكس.

يشتق من ذلك أن التكفيرية هي صناعة الكفر، وقد تكون فردية وعفوية، وقد تكون منهجية ومنظمة، وهي من منتجات الحضارات البشرية على اختلافها.

حالة الأحكام العرفية كفر سلبي؛ لأنها تطمر حقوق المواطن وتمنعها من التنفس. والفساد كفر سلبي لأنه يمتص طاقة الناس البسطاء الذين هم بحاجة ماسة لها لتأمين حد أدنى من العيش، واستخدام العنف ضد تظاهرات سلمية كفر سلبي. تكفير السلطة للمعارضة وتكفير المعارضة للسلطة كفر سلبي، والتكفير المزدوج* للمستقلين كفر سلبي، والتحريض الطائفي والعرقي كفر سلبي. والاصطفاف في أجندة خارجية تستهدف الوطن هو أقبح أنواع الكفر السلبي.

بوابة التكفير (سلاح التخلف والانحطاط الثقيل) كانت دائما محروسة بعشرات الجلادين والمنظرين، ولكل منهم وجه مختلف. بوابة حرستها سلطات متعاقبة ومتنوعة، ولتفريغ الضغط المنتج، ابتُدِعَت فتحات تنفيس وضعت عليها أنواع مختبرة تاريخيا من صمامات الضبط وأدوات الإحكام، مما خلق انفصالا بين العقل وخطابه اللغوي من جهة، وبين الأدوات الفاعلة من جهة ثانية، وأعاق فرص التطور والنمو في الأزمان السالفة والمعاصرة.

تشهد سورية اليوم حراكا شعبيا ضد الفساد والوصاية وقمع الحريات، فساد بات دينا له مبشرون ودعاة تنكبوا سلاح التكفيرية، وتتعرض لاستهداف لاحت طلائعه من الحملة الأخيرة على سلاح المقاومة في إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد، وما يمس المقاومة يمس موضوعيا سورية، شعبا وسلطة وجغرافيا.

مسار المطالبة بالحرية والإصلاح منفصل جوهرا وأداة عن مسار استهداف الخارج الذي لا ينقطع. وإذا كان الخارج يبذل جهداّ مكثفا لخلط الأجندات والأدوات، فإن مسؤولية الفصل تقع على عاتق الجميع شعبا وسلطة ومعارضة، انطلاقا من فرضية أن كل الأجندات (سلطة ومعارضة ومجتمعا مدنيا) يجب أن تخضع لسلطة المبادئ والأسس الأخلاقية الحامية للوطن وللمجتمع، التي يفترض أنها تنظم القول والفعل.. وإلا فعن أي مستقبل يدور الحديث؟

المواطن يفصل ببساطة بين المسارين، ويَحمِل باقتناع مسؤولية دفع إصلاح نوعي ليغدو واقعا، ومسؤولية مواجهة الاستهداف الخارجي وتحقيق هزيمته.

أمل المواطن السوري أن ينجز الرئيس اصطفافا ضد الفساد وأدواته في سورية، وخرج متظاهرا في التاسع والعشرين من آذار/مارس ليعبر له وبوضوح عن أنه يقف معه ضد الاستهداف، وأنه محط آماله لتحقيق إصلاح نوعي. عرض الرئيس عناوين لما هو آت، لكنّ ذلك لم يكن كافيا لجسر فجوة ثقة اتسعت خلال سنوات بين المواطن ومؤسسات السلطة وفعاليات مجتمعية متنوعة صارت جزءاً من طوق الفساد الذي أضعفه، أضعفه فساد قاض ومحام ومهندس وطبيب وشرطي مرور وموظف ومدير ووزير ورجل أمن. فساد امتص الطاقة من أطرافه فتيبست وباتت تؤلمه. تحدث الرئيس عن الفساد، لكن ليس بالحرارة الكافية لتليين أطرافه، وليكتسب ثقة كافية لفتح ممر آمن لآماله. ربما لا يمكن لأي خطاب لغوي أن يلينها.. ربما الفعل الإيجابي وحده قادر على ذلك، وإذا كانت الأفعال البشرية لا يمكن أن تنتج حسب صيغة كن فيكون، فإنها مطلوبة في سورية الآن وليس غدا وبإلحاح ناتج من الضرورة.

نحن أمام مسارين للزمن، لكل منهما إيقاع مختلف في اللحظة نفسها. ربما يقع في مرتبة الضرورة الملحة اليوم إعلان مبادئ ناظمة ورؤى واضحة لبنية المستقبل القريب والبعيد تقدمه كل الأطراف، ليجسر تعارض الزمنين ويكبح أي استثمار سلبي للفجوة بينهما.

أرجح أن المواطن أرهقه الأخبار وحديث المعلقين عليها في الفضائيات، ويحتاج لفسحة تأمل، لرؤى تتحاور علنا وتكشف أمامه ضميرها وهويتها وتصوراتها، وأن حدسه يتلمس أن دفع الشرور يحتاج مشروعاً وطنياً شاملا يشارك فيه الجميع. وأرجح أن أمله ما زال معقودا على الرئيس ليقود السفينة نحو ذلك اليم ويبعدها عن مستنقع الفساد والفوضى، لبناء واقع متين ومعافى يقطع السبل أمام كل استهداف.

مشروع وطني من أولوياته، إنتاج فضاء يصون حرية وكرامة وحقوق المواطن، ويفتح مسارات راسخة لتكامل الطاقات المجتمعية، ويرفض كل منهج يستقي تكتيكه من تكفيرية مجحفة تقصي الطرف الآخر، أو تضعه في موقع الذي يتحمل مسؤولية كل شر، فذلك قد يفضي لعمى ألوان يفرغ الميدان من منظومة أخلاقية إيجابية تضبط الإيقاع ويحتاجها أي مستقبل زاهر. لنتذكر هنا كم ركز غاندي على العلاقة الوثيقة بين الأدوات التي تستخدم في الصراع، ونوعية المستقبل الذي سينتج بعد نهاية ذلك الصراع.

أرجّح أيضا أن بعض الأصوات التي تحدثت أو كتبت أو تظاهرت منتقدة السلطة، تتمنى أن يفتح ممر للصلاح، كي لا نسقط تحت الضغط في بوتقة الإحساس بأن هناك صراعا يأخذ طابع كسر عظم، ولندرك عوضا عن ذلك أن الحاجة الموضوعية لمخرج عادل وآمن وموثوق، هي من يضغط بقوة على الجسد والعقل، وأن التكفيرية ليست العربة المناسبة لذلك؛ فهي قد تنقلنا إلى داحس والغبراء والعراق وليبيا، وتوقعنا في مستنقع ننتج فيه موروثاً سلبيا جديدا للأجيال القادمة عوضا عن تفكيك بعض من ذلك الموروث.

أوجعني قلق بعض شبابنا في المهجر على وطنهم من حريق يتلمسون حيث يقطنون رغبة بإضرامه، وأبهجني حلمهم بسورية تصان فيها الحقوق والحريات، ولا يضطر نابغ لهجرها هربا من تسلط جاهل. المونولوج الذي لا يبرح مخيلة المواطن طارحا علية أسئلة كثيرة تحتاج لإجابة جمعية، منها:

ـ كم موظفا يستوجب على كتفي أن يرفعه لمرتبة مليونير؟ وكم عانسا أقدم قربانا للفساد؟

ـ أليست محاربة الفساد مدخلا رئيسا للتصدي للاستهداف الخارجي؟

ـ متى ستكون لي نقابة تحمي مصالحي؟ وصحافة وإعلام يمثلانني؟

ـ متى أستطيع أن أسس جمعيتي المدنية؟

ـ متى سأحظى بقانون نافذ يردع رجل الأمن عن إهانتي؟

ـ متى ستحرر الطفولة من السياسة؟

ـ متى سيغادرني الخوف من أن أعبر عن رأيي؟

ـ هل يمكن أن أمسح من ذاكرتي آلاف اللبنانيين الذين دمرت إسرائيل منازلهم في حرب تموز مدعومة من أطراف عربية ولبنانية؟ أو ملايين العراقيين الأعزاء الذين استضفتهم؟ أو اغتصاب فلسطينيين؟

ـ هل يمكن أن أنسى السفاهة التي صبت على حزب الله لأنه لم يهزم في تموز؟

ـ هل أنسى حصار غزة وشهداء سفينة مرمرة؟

ـ هل أنسى الشرور التي جلبها أمثال كرزاي والجلبي لبلدانهم؟

ـ هل يظن أحد أنني أقبل بمن لا يدين من قابل بوش الابن في البيت الأبيض؟.

ـ هل يظن أحد أنني سأقبل بأن يقتل مواطن، ولا يحاسب من قتله كائنا من كان؟

ـ هل يظن أحد أنني سأتنازل عن إحساسي بعزة نفسي اتقاء لشر مسؤول فاسد، أو أن أنسى من أنا، ومن هو ذلك الخارج الذي شن حروبه الصليبية وقسم الوطن العربي واغتصب فلسطين؟

ـ متى يعي الساسة ـ على اختلاف مواقعهم ـ أن لي جناحين، وأنني أحتاج لكليهما سليما؟ وأنني لست عجينة لمشاريعهم؟ متى.. متى؟

سأسمح لنفسي أن أتظاهر على صفحة هذه الورقة هاتفاً: الشعب يريد الحرية والعدالة والمحبة، لا التباغض والحرابة. أعداء الشعب هم إسرائيل والفساد والتكفيرية.

بالطبع لا يحق لي أن أهتف مستخدما كلمة الشعب؛ لأن أحداً لم يفوضني، لكنني لست وحدي من يرتكب هذا التجاوز، ولست وحدي من يرمي محرمة الورق في الطريق بعد استخدامها.

سأسمح لنفسي بالأمل أن تكون هناك فسحة عقلية يعمل على إيجادها الرشد. مستلهما ذلك الأمل من قوله تعالى في كتابه الكريم: ‘ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم’. فسحة تتيح لكل الأطراف أن تُخرج ما في جعبتها من خير للوطن والمواطن. خير ينبت الأمل في النفوس بحياة كريمة ونفس عزيزة، ويحصن سورية من استهداف لم ولن يتوقف طالما تجثم إسرائيل على صدر هذه المنطقة.

 

‘ كاتب سوري

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى