صفحات العالم

لا بدّ من «قاعدة»


حازم صاغيّة

منذ أكثر من أسبوع واللبنانيّون ما بين مصدّق ومكذّب، مصاب بالحيرة أو مصاب بالخوف، بسبب الخبر عن «القاعدة» في بلدة عرسال الحدوديّة. لكنّ الأمر اللافت، على رغم قلّة الاكتراث به، أنّ أقلّ الوزراء اللبنانيّين كلاماً وحضوراً، هو الذي ما إن فتح فمه حتّى تحدّث عن… «القاعدة». والمنظّمة المذكورة، كما نعلم، قضيّة لا يليق إلاّ بأكثر الرسميّين حضوراً وفعلاً وكلاماً الكشف عنها. يصحّ هذا في بلدان العالم من غير استثناء. فـ «القاعدة»، أقلّه منذ 2001، حدث يتعدّى كلّ حدود وطنيّة، وكلّ استخدام مألوف للعنف، بل هي، وفق إجماع واسع، إرهاب فوق-إرهابيّ، يستحضر أنواعاً من التداول والتنسيق اللذين يمتدّان من واشنطن إلى موسكو ومن باريس إلى ميلبورن، كما تندمج في التعامل معها أبعاد سياسيّة وعسكريّة واستراتيجيّة وتربويّة…

فلماذا نيط بالوزير فايز غصن، واهتماماته تمتدّ من بلدة أميون إلى بلدة كوسبا في قضاء الكورة الشماليّ، أن يفجّر قنبلة كهذه؟

أغلب الظنّ أنّ المسألة تتعدّى المنصب الوزاريّ الذي يحتلّه الوزير المذكور، كما تتجاوز انتماءه إلى تكتّل سياسيّ يكاد يكون الأكثر انتحاريّة في دفاعه عن النظام السوريّ.

صحيحٌ أنّ الأسباب التي تفسّر ولادة «القاعدة» ونموّها في بلد معيّن أسباب داخليّة بالدرجة الأولى يندرج فيها الاقتصاديّ والديموغرافيّ اندراج السياسيّ والثقافيّ. فـ «القاعدة»، في هذا المعنى، يجوز في تفسيرها ما يجوز في تفسير الحروب الأهليّة، بحيث يغدو وصفها «حرباً للآخرين على أرضنا» تبسيطاً محضاً ينطوي على تنصّل فاضح من المسؤوليّة الذاتيّة.

مع هذا يبقى دور العامل الخارجيّ في تضخيم «القاعدة»، وصولاً إلى اختلاقها أحياناً، دوراً مؤكّداً لسببين على الأقلّ: ذاك أنّ «الدول الفاشلة» تستحضر «القاعدة» بقدر ما تنتجها مجتمعاتها. وكلّما ذهبت «الدول الفاشلة» تلك مذهب التستّر على الفشل بخوضها الحروب الخارجيّة عبر التنظيمات والمنظّمات، تفوّقت نسبة الاستحضار الرسميّ على نسبة الانتاج المجتمعيّ.

أمّا من الناحية الأخرى، فثمّة في استحضار «القاعدة» شيء مؤكّد من الحرج بالمعارك التي تخاض، والتي يستعمل أصحابها اسم «القاعدة». في هذا المعنى تتولّى الأخيرة التعويض عن لغة مفقودة في وصف حدثها، لغةٍ لا يمكن إلاّ أن تكون وتبقى مفقودة ومُتستّراً عليها. من أمثلة ذلك أنّ التورّط الباكستانيّ المزمن إلى جانب «الطالبان» في أفغانستان، أو عمل أطراف عربيّة عدّة على تقويض الأمن في العراق وتمرير الارهابيّين إليه، أو اغتيال سياسيّ كالرئيس رفيق الحريري، هي كلّها ممّا يحول الحرج به دون صياغته في لغة صريحة واضحة. في هذه الحالات جميعاً، وهي حالات قيام الدول بوظائف العصابات، يصير مطلوباً إيجاد «القاعدة» أو مثيلات لها، بغضّ النظر عن مدى وجودها الماديّ والفعليّ.

ويغلب الظنّ أنّ التقاء الحرج والفشل (قبل أن تزيده مهمّة المراقبين العرب تظهيراً) هو الذي أوجد «القاعدة» في عرسال، وهو ما قد يوجدها في أمكنة أخرى لبنانيّة وسوريّة. ولا يعود غريباً، بعد هذا، أن يكون الوزير الذي أنبأنا من أكبر ثمار هذا الالتقاء المسموم.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى