صفحات العالم

تركيا «الخاسرة» حتى لو سقط النظام السوري

 

محمد نور الدين

شكّلت الأزمة في سوريا منذ بدئها قبل عامين حقل اختبار وامتحاناً للسياسات الخارجية التركية، بكل العناوين والنظريات التي رفعتها خلال السنوات القليلة التي سبقت انفجار الأزمة في سوريا وفي العلاقات بين البلدين.

وإذا كانت العلامات الأولية قد أشارت إلى بداية تحول في موقف أنقرة من العلاقة مع دمشق في وقت مبكر من الأزمة، فإن السنتين اللتين انقضتا قد أظهرتا بالكامل ملامح هذا التحول والاتجاهات الجديدة في طبيعة الدور التركي ونزعاته وأهدافه.

ومن دون أي ترتيب منهجي، يمكن التوقف عند الملاحظات الآتية:

1- برغم أن وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو يكرر أن تركيا لم تحسم موقفها المعارض للنظام السوري إلا بعد عشرات الزيارات والنصائح وآخرها في آب العام 2011، فإن أنقرة كانت في الوقت ذاته تسير، منذ وقت مبكر بعد أقل من شهر على بدء الأزمة، على خط مواز في اتجاه تشكيل «حضن دافئ» للمعارضة السورية السياسية، وبعدها بوقت قصير كانت تركيا «الحضن الناري» للمعارضة السورية المسلحة التي تمثلت بـ«الجيش السوري الحر».

2- بمعزل عن المسافات والمهل الزمنية، فإن تركيا اختارت أن تكون رأس حربة لإسقاط النظام، فإلى كونها مقراً لقيادة «الجيش السوري الحر». ومن اسطنبول تأسس أول مجلس للمعارضة وهو «المجلس الوطني السوري»، فقد تحولت الأراضي التركية إلى مقر وممر لكل أنواع المسلحين المتشددين والى قاعدة إمداد عسكرية ولوجستية لهؤلاء في طريقهم إلى الأراضي السورية بإجماع كل التقارير الغربية والصحافية الموثقة.

3- وباتت تركيا أيضاً محرّكاً للجهود الإقليمية والدولية لإسقاط النظام السوري مثل «مؤتمر أصدقاء سوريا» الذي كان من بنات أفكار أنقرة. كذلك كان تنسيق كامل لتركيا مع جامعة الدول العربية لعزل سوريا وتعليق عضويتها في الجامعة. كما بذلت الديبلوماسية التركية جهوداً مضنية في المحافل الدولية لاستصدار قرار من مجلس الأمن لفرض منطقة عازلة، وللتدخل العسكري الخارجي، وللضغط على مواقف روسيا والصين.

4- وقد وضعت تركيا كل ثقلها لشطب النظام السوري من خريطة سوريا والمنطقة، ورفعت شعار «إما كل شيء أو لا شيء» مراهنة على أن النظام السوري سيسقط بسرعة كما سقطت أنظمة مصر وتونس ولاحقاً النظام في ليبيا. وباتت أنقرة تحدد المهل لسقوط النظام في محاولة نفسية لتعزيز شروط إسقاطه. وقد أدى الرهان في اتجاه واحد دون التحسب لاحتمال فشله إلى دخول السياسة التركية في مأزق وطريق مسدود لم تعالجه بإعادة النظر في الحسابات بل بالمزيد من سياسة الهروب إلى الأمام.

5- ولقد بدا واضحاً أن أحد أكبر الأخطاء في سياسة أنقرة تجاه سوريا وفشلها هو قصور منظّري السياسة الخارجية التركية عن قراءة الواقع الداخلي السوري وتوازناته. كما لم تقرأ صواباً لا موقع سوريا الإقليمي ودورها، ولا اتجاهات السياسة الخارجية لكل من روسيا والصين، والصراع على رسم توازنات النظام العالمي الجديد، وأهمية سوريا في هذه الصراع. فغفل عن قادة تركيا مكامن قوة النظام في الداخل والخارج.

6- وكانت النتيجة ظهور مخاطر على تركيا لم تكن تتوقعها، وأولها ازدياد الاحتقان المذهبي بين السنّة والعلويين في الداخل التركي، وتصاعد وتيرة الصدامات العسكرية مع «حزب العمال الكردستاني»، وظهور واقع كردي في شمالي سوريا كان في أساس تهديد تركيا بدخول سوريا عسكرياً للقضاء على الخطر الكردي.

7- وإذا كان من نتائج مزلزلة فهو هذا الانهيار السريع لنظرية «صفر مشكلات» التي رفعها داود أوغلو وتبناها رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان، والتي بالكاد استمرت بضع سنوات. وسبّب الموقف التركي من سوريا تصفيراً للعلاقات مع كل جيرانها من سوريا والعراق وإيران وقسم من اللبنانيين وصولاً إلى روسيا.

8- وأظهرت الأزمة في سوريا ازدواجية كاملة في المعايير التركية. فقد فسّرت أنقرة لاحقاً شعار تصفير المشكلات على أنه مع الشعوب وليس الأنظمة، لكن هذا الشعار كان يقف ساكتاً أمام ثورة الشعب البحريني.

9- ولقد بان واضحاً أن سياسة تركيا الخارجية كانت تهدف من خلال السعي لإسقاط النظام في سوريا إلى ضرب عدة أهداف بحجر واحد. الأول أن تكون تركيا لاعباً وحيداً وأول في المنطقة. إذ إن أنقرة كانت ترى أن إسقاط النظام السوري يفتح أمام إضعاف النظام في العراق تمهيداً لإسقاطه، ومن ثم ضرب «حزب الله» في لبنان، ومن بعدها تصبح محاصرة الثورة الإسلامية في إيران أكثر سهولة فتضرب الشريك الإقليمي الإيراني في النفوذ. وقد كانت خطبة أوغلو في 27 نيسان العام 2012 أمام البرلمان التركي مهمة جداً لفهم سعي أنقرة للاستئثار بحكم المنطقة من دون أي شريك حتى لو كان عربياً.

والهدف الثاني من السعي لإسقاط النظام السوري هو فتح الطريق أمام عثمانية – سلجوقية جديدة لا تسقط من خطابات أردوغان، ولا يمكنه أن يعتبرها افتراءات أو أكاذيب، وهي موثقة بالكلمة والصوت والصورة وفي عدد كبير من المناسبات.

10- ولقد ارتكبت أنقرة خطيئة فظيعة عندما ظهرت كجزء من محور سني في المنطقة فبددت كل شعارات النموذج التركي على أنه علماني وديموقراطي. والدافع الأيديولوجي المذهبي والإتني في الموقف التركي ظهر أيضاً في تمييزها بين قوى المعارضة السورية نفسها فاحتضنت التيار الإسلامي «الإخواني» مستبعدة القوى العلمانية والكردية في الداخل والخارج.

11- ودفعت الأزمة في سوريا تركيا أيضاً لتكون أكثر التصاقاً بحلف شمال الأطلسي فنشرت على أراضيها منظومة الدرع الصاروخية ومن ثم الباتريوت. واعتبر المسؤولون الأتراك أن حدود بلادهم هي حدود الأطلسي مقدمين للمرة الأولى الصفة الأطلسية لتركيا على أي صفة أخرى ومنها أنها دولة مسلمة ومشرقية. وهذا تحوّل كبير وخطير لم يسبق لسلطة سابقة في تركيا أن وصلت إليه.

12- لقد ضحّت تركيا بكل علاقاتها السابقة مع دول الجوار الجغرافي وهدمت الثقة التي كانت في أساس تجاوب هذه الدول مع سياسات الانفتاح التركية السابقة على الأزمة السورية. وبدت تركيا دولة تتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. فتطالب بتنحي حسني مبارك، وتشارك عملياً في جهود إسقاط النظام في سوريا. وبالتالي تحولت سياسة صفر مشكلات إلى سياسة إسقاط الأنظمة التي لا ترضى عنها تركيا. وهذا تطور خطير أيضاً في الدور التركي، الذي كان يكتفي في السابق بالتحالف مع الغرب وإسرائيل، لكنه بات الآن طرفاً في الصراعات الداخلية في كل دولة.

13- إن بقاء النظام في سوريا سيعتبر فشلاً ذريعاً لسياسات «حزب العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا. لذلك وُجدت هذه الحدة التي لا حدود لها لمنع أي تسوية مع النظام والتحريض على عدم الحوار معه بل الدفع بالمواجهة العسكرية إلى ذروات جديدة.

لكن مع ذلك فإن سقوط النظام إذا حصل لن يشكل انتصاراً لتركيا. فالمسألة لا تقف عند بقاء أو سقوط هذا النظام أو ذاك، بل في العلاقة والنظرة بين تركيا وسائر المكونات الاجتماعية الدينية والمذهبية والاتنية في المنطقة التي لا يمكن أن تترمم بعد الذي حصل في ظل استمرار سلطة «حزب العدالة والتنمية». إن انكسار الثقة وعودة الشكوك بين تركيا ومحيطها المباشر (بسبب الأزمة السورية) بل مع المحيط العربي الأبعد (امتعاض السعودية والإمارات وغيرهما من تأييد تركيا لنظام الإخوان المسلمين في مصر وتونس) سيكون من أكبر العوائق أمام عودة تركيا لتكون جزءاً طبيعياً من البيئة المشرقية.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى