صفحات الناس

حكاية معبر بستان القصر.. معبر الموت/ يسار قدور

                                            في الحديث عن المعابر يذهب الناس بتفكيرهم إلى الممرات الحدودية بين الدول المتجاورة، وقد يكون معبر “رفح” الحدودي بين مصر وقطاع غزة هو المعبر الأكثر شهرة، بسبب كثرة الحديث عنه في وسائل الإعلام، لما يشهده هذا المعبر من حالات إغلاق متكررة، ترتبط بأمور أمنية أحياناً وبأسباب سياسية مرات كثيرة؛ وما لاشك فيه أنّ المعابر الحدودية السورية أخذت نصيبها في نشرات الأخباروالتغطيات الاعلامية، بسبب النزاعات عليها وتبادل السيطرة بين مختلف القوى المتصارعة على الأرض السورية.

أما في مدينة حلب فإن الحديث عن المعابر له طابع آخر واتجاه مختلف تماماً، فما إن تذكر كلمة (معبر) فهذا يعني أنك تقصد معبر (بستان القصر) أو “معبر الموت” كما يسميه الحلبيّون.

بستان القصر ليس معبراً حدودياً بين حلب وتركيا ولا هو ممر بين محافظة حلب ومدينة سورية أخرى، إنه حي في وسط مدينة حلب تقريباً، ويذكر الكثيرون أنّ هذا الحي احتضن أجمل التظاهرات في مدينة حلب في فترة الحراك السلمي، واستمرت المظاهرات فيه حتى تحت القصف والحصار.

تميزت مدينة حلب دائماً بأنها تضم مدينتين في مدينة واحدة، حلب الجديدة التي تشبه باقي المدن ببنائها وعمرانها، وحلب القديمة (التي تصنف ضمن التراث العالمي)، وهي معروفة ببنائها القديم وأسواقها الكثيرة المسقوفة وأزقتها الضيقة وصولاً إلى قلعتها التي تعتبر من أكبر قلاع العالم التي مازالت تحافظ على شكلها حتى الآن؛

تغيرت معالم مدينة حلب في السنتين الأخيرتين بسبب الحرب الدائرة فيها وخسرت حلب القديمة الكثير من المقومات التي أكسبتها شهرتها، واحترق الكثير من أسواقها المسقوفة ودُمّرت أحياء بأكملها، ولم تعد حلب القديمة كما يعرفها السوريون وغير السوريين، من دون أي صرخة احتجاج على مايحدث من تدمير لجزء مهم من الحضارة البشرية والتراث الانساني؛ ونالت حلب الجديدة أيضاً نصيبها الكبير من الدمار والقصف الذي لايقل شراسةً وعنفاً عن حلب القديمة الأم.

تغيرت معالم مدينة حلب (القديمة والجديدة) وتقسيماتها بعد كل ماحدث وأصبحت منقسمة إلى حلب الشرقية وحلب الغربية، ضمن خارطة متغيرة ومتبدلة حسب المستجدات العسكرية على الأرض، حلب الشرقية أو (الحرة) كما يسميها قاطنوها، وحلب الأسد وهي المناطق التي مازالت تحت سيطرة النظام، وعندما يسيطر الجيش الحر على أي حي جديد فهو ينضم إلى حلب الحرة، أما عندما يعيد النظام سيطرته على أي بقعة جغرافية فإنه يسميها (منطقة مطهرة)، وبناءً عليه فإن الكثير من الأحياء والمناطق تكون متحولة، فهي تلبس تارة ثوب التحرير وتبدله أحياناً برداء التطهير.

أما الثابت الوحيد في لعبة الموت، التي تعيشها أحياء حلب، هو حي بستان القصر، الذي يعد المعبر الحدودي الوحيد لأهالي حلب بين المناطق التي تسيطر عليها قوى المعارضة (المناطق المحررة) والمناطق التي يسيطر عليها النظام، وهذا يرتب على المواطنين قطع مسافات طويلة للتنقل بين حيين متجاورين مثل ” بستان الباشا” و”الميدان” عوضاً عن السير لدقائق معدودة قد لاتتعدى الثلاث أو الأربع دقائقٍ، ويحدث كثيراً أن يكون أحد الأحياء تحت سيطرة مشتركة يتقاسمها الجيش الحر وجيش النظام مثل حي “الأشرفية” وهذا أيضاً يفرض على الناس الذهاب إلى بستان القصر للعبور من جزء إلى الجزء الآخر في الحي نفسه.

إن وصول أي شخص إلى معبر “بستان القصر” يعتبر تحدياً للموت، وإن بدرجات وأساليب مختلفة، رغم اضطرار الكثير من الناس لعبوره على نحو شبه يومي، بسبب أعمالهم وتأمين معيشتهم، فالمدينة الصناعية مثلاً تقع في حلب “المحررة”، أما الدوائر الحكومية جميعها فهي تقع في حلب “المطهرة”؛ تبدأ مغامرة المواطن الذي يعيش في حلب “المطهرة” من لحظة خروجه من منزله في طريقه إلى “بستان القصر”، ويبدأ الرعب الحقيقي عند أول حاجز للأمن أو الشبيحة لأن أي مواطن عرضة للاعتقال بسبب أو من دون سبب، تبعاً لمزاج الحاجز الذي يمر عليه، ناهيك عن أن هذه الحواجز تعتبر أهدافاً للجيش الحر وقد تتعرض للقصف أو الهجوم في أي لحظة، ولا تنتهي المغامرة بعد مغادرة الحاجز الأخير قبل “بستان القصر”، كذلك لاتختلف حالة المواطن الذي يعيش في حلب “الحرة” حيث أن كل المناطق التي يمر بها وصولاً إلى المعبر هي مناطق “محررة” وهذا يعني أنها معرضة للقصف على مدار الساعة، أما القاسم المشترك للمغامرة فهو جانبي المعبر،هذه المنطقة الحدودية الفاصلة بين دولتي حلب، فهي مليئة بالقناصين من كلا الجانبين ولا يعرف أحد في أي لحظة قد تصيبه رصاصة أحدهم، ليتبادل الطرفان الاتهامات بفتح النار، ناهيك عن الاشتباكات والقصف شبه اليومي، الذي ينهال على هذه المنطقة، رغم العدد الكبير الذي يجتاز هذا المعبر يومياً بالاتجاهين، حتى يكاد لا يخلو يوم من دون وقوع عدد من القتلى أو المصابين في هذه النقطة تحديداً.

ومن ناحية أخرى تعيش حلب (المحررة والمطهرة) حصاراً متبادلاً يسميه الحلبيون ساخرين “حصار الأحبة”، حيث تمنع قوات الأسد وشبيحته إدخال أي نوع من المواد المتوفرة لديها إلى الضفة الأخرى (لأنها تشكل حاضنة شعبية للإرهابيين) كما تدعي، وبالمقابل يمنع الجيش الحر نقل المواد المتوفرة في مناطقه بحجة قطع كافة أنواع الامداد عن النظام، وبما أنّ “الشعب السوري مابينذل”، فإن المواطنين هم من يدفعون ضريبة الغلاء الفاحش في الضفتين من عرقهم ولقمة أطفالهم؛ حيث إن الكثير من المواد التي لايستطيع المواطن العبور بها نهاراً، تجد طريقها ليلاً ولا تراها الحواجز ولا القناصين من كلا الجانبين، ليرزقهم الله من غامض علمه أموالاً طائلة. وهل يملك أحدٌ الاعتراض على: “ونرزقهم من حيث لا يعلمون”؟

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى