صفحات الرأي

ويكيليكس.. إلى التشفير

روجيه عوطة

صحيح أن جوليان آسانج ممنوع من مغادرة مكانه داخل السفارة الإكوادورية في بريطانيا، غير أن ذلك لا يمنعه من استكمال مشروعه العنكبوتي. إذ لا يكتفي بما أحدثته تسريبات “ويكليكس” من ضجة في أنحاء العالم، بل يفكر اليوم، ويشتغل بغاية جديدة، ألا وهي تحصين موقع مستخدمي الإنترنت من أجل مواجهة سلطات المراقبة والتجسس والتزوير في الواقع والإفتراض. لذا، و بحسب ما جاء في مقابلته الأخيرة مع “مجلة الفلسفة” الفرنسية (عدد حزيران 2013)، لا مناص من اعتبار الإنترنت “ظاهرة سياسية”، من الضروري دمقرطتها، وفتح فضائها أمام كل الناس. ما يتيح لهم أن يقرروا مصائرهم العنكبوتية، وأن يتمتعوا بحقهم في المعرفة الحرة.

كان الإنترنت بالنسبة إلى جيل المبرمجين، الذي ينتمي إليه أسانج، مكاناً يوتوبياً، مرّ بفترة ذهبية خلال تسعينات القرن الماضي، قبل أن يُصاب بالإنحطاط، وتقبض عليه الشركات العملاقة، مثل “غوغل” و”فايسبوك”، مع بداية الألفية الثالثة. بالتالي، تغيرت معالم “المكان المثالي”، وبدأ ينصاع لضغوط الواقع وظروفه. إلا أن الإنترنت بدأ يتحول شيئاً فشيئاً إلى “الجهاز العصبي” الذي يقود المجتمعات، ماحياً الفروق بينها، ومعولماً حاجاتها الأساسية. والحال هذه، بدا أن هناك رغبة سياسية عامة لدى كل المستخدمين، وهي تخطي الحدود بين الدول، بهدف الوصول السريع إلى المعلومات المتوفرة افتراضياً.

 إذاً، باتت الشبكة العنكبوتية مركزية في الحياة الحديثة، وبدأ تأثيرها يظهر في المكننة التي اتبعتها الدول في مؤسساتها وأجهزتها. في هذا الإطار، يعتقد أسانج أن الإنترنت غيّر مفهوم الدولة، وحولها إلى “علبةٍ ضخمة، تدخلها المعلومات بمحتوى معين، وتخرج منها بضمون مختلف”. فداخل هذه “العلبة” يجري إنتقاء الحقائق التي يمكن نشرها من دون أن تفضح السلطة، أو تهز ركائزها. بالتالي، يرى مبرمج “ويكيليكس” أن الدولة الديموقراطية هي “علبة معلوماتية شفافة”، تسمح لكل الناس أن يشاهدوا ما يحصل داخلها. ومن نافل القول هنا أن جهاز الدولة ليس إلكترونياً، أو معلوماتياً فقط، بل واقعياً أيضاً، فما زال يهدف إلى احتكار العنف في المجتمع، ولو دارت معاركه الجديدة في العالم الإفتراضي.

 تعمد السلطات إلى مراقبة مستخدمي الإنترنت، وجمع المعلومات عنهم. والخطير في فعلها هذا، غير أنها تنتهك الحريات الشخصية، هو لجوؤها إلى الشركات الخاصة، كي تصل إلى غايتها. فنتيجة عدم امتلاكها التقنيات والوسائل الحديثة، تستعين الحكومات بشركات البرمجة كي تراقب الشبكة العنكبوتية، وتسجل كل البيانات المتعلقة بالمستخدمين. ومن تلك المؤسسات الخاصة، يسمي أسانج شركة “فاستك” Vastech الأميركية، التي تتخذ من جنوب أفريقيا مقراً لها، وشركة “فوبن” Vupen الفرنسية، التي تبيع للحكومات مختلف أنواع الفيروسات الإلكترونية، كي تستخدمها في حروبها ضد الدول الأخرى.

في النتيجة، تصبح المعلومات الخاصة بالمستخدمين عبارة عن سلع وبضائع تتاجر الشركات بها، وتبيعها لهذه الدولة أو تلك. ما يعني أن المستخدم ليس عرضة ً للمراقبة وانتهاك الخصوصية فحسب، بل للتتجير أيضاً. ويُضاف إلى ذلك، أنه، كواحد من سكان الشبكة العنكبوتية، لا يملك أي مقوم من مقوماتها. فـ”البنية التحتية” من مراكز اتصال ومعدات بث، تحتكرها إحدى الشركات العالمية، أما “بروتوكول الإنترنت أو ما يُعرف بالـ”آي.بي”، وخدمة “الويب”، فتتحكم بهما مؤسسة “إيكان” Icann، الموجودة في الولايات المتحدة. والأخيرة، في إمكانها محو أي موقع أو معلومة على الإنترنت، متحكمة ً بالمستخدمين، وبالمعلومات التي من الممكن أن يحصلون عليها.

 من هنا، يعتقد أسانج أن الوقت قد حان من أجل الإنتقال من استراتيجية التسريب، التي اعتمدها في “ويكيليكس”، إلى استراتيجية التشفير cryptographie، أو التعمية والإخفاء. وذلك، من أجل التأكد من حقيقة المعلومات التي تصل إلى المستخدم، وإن كان قد جرى تزويرها أو التلاعب بمضمونها. فمن حق المستخدمين الحصول على معلومات صحيحة، لا يمكن التشويش على محتواها، حتى لو حاول الملايين اختراقها. بكلام آخر، يسعى أسانج إلى “ويكيبيديا مضادة” (Anti-Wikipedia)، تسمح للمستخدم أن يحصل على المعلومات مجاناً، لكنها، تختلف عن “ويكيبيديا” الحالية، بأن بياناتها صحيحة، ولا يمكن تعديلها أو إزالتها من الشبكة.

في حال نجح مشروع أسانج التشفيري، فإنه سيؤدي إلى امتلاك المستخدم لـ”رأسمال المعرفة”، وهو الرأسمال الوحيد الذي من الممكن أن يوفر له قوة في وجه الشركات المحتكرة للـ”بنية التحتية”، ولـ”بروتوكول الإنترنت”. على هذا الأساس، سيبدأ تاريخ الإنترنت بالتطور، من دون أن تقوده المؤسسات الكبيرة، أو تصنعه. والحال أن المبرمجين المعارضين للسلطات العنكبوتية، أمثال أسانج، وآرون شوارتز، وإدوارد دسنودن، الذي اشتهر مؤخراً بتسريبه لوثائق تفضح تجسس الاستخبارات الأميركية على هواتف وحواسيب المواطنين… هؤلاء هم صنّاع تاريخ الإنترنت، الذي ما عاد يتطور بقوة “الكبار” على ما كتب هيغل ذات يوم، بل بإرادة الهوامش والحواشي والجوانب، القادرة على تعطيل عمل المؤسسات المراقبة، وقرصنة بياناتها. كما أنها تلجأ، في الوقت نفسه، إلى تعمية البيانات العامة، دفاعاً عن صحتها، وعن حق الجميع فيها.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى