الأزمة السورية: أبعاد دولية
ويليام فاف
حالة الغموض والضبابية التي تميز الصراع في سوريا، هي كل ما يمكن أن يقال حول الموضوع في ظل غياب المعطيات الدقيقة وتضارب التحليلات واختلافها، فهل بدأت الثورة السورية مثلا كنتيجة حتمية للحركية التي شهدتها المنطقة وكاستمرار بالتالي للربيع العربي؟ أم أن هناك عوامل خارجية دفعت في اتجاه الثورة؟ هذه فقط بعض من الأسئلة الحائرة التي تحيط بالموضوع السوري، يُضاف إليها سؤال آخر عن من أطلق الشرارة الأولى للحراك السوري وكيف بدأ ذلك أول الأمر؟ وهنا تسود الرواية المنتشرة على نطاق واسع، من أن أطفالا ومراهقين كتبوا بعض الخربشات على الحائط في مدينة درعا بالجنوب، فما كان من الأمن إلا أن احتجز الأطفال وعذبهم، وهناك من يقول إن بعضهم قتل في مخافر الشرطة، بل تعرض أهلهم للإهانة والإذلال عندما حاولوا التوسط لإطلاق سراحهم. وبدلا من كتمان الأمر واللجوء إلى الصمت، كما في مرات سابقة، انفجرت مشاعر الاستياء لدى الجمهور العريض، وكان النظام كلما أوغل في إذلال الناس والتنكيل بهم زاد زخم الاحتجاجات التي انتقلت من درعا إلى باقي المناطق السورية، وانتقل الحراك من مرحلة الاحتجاج السلمي إلى عسكرة الثورة.
بيد أن سوريا، ورغم ما تشهده من اضطرابات قد تعصف بالنظام، كانت من أكثر البلدان استقراراً في الشرق الأوسط، رغم مجاورتها للعراق المحاذي لإيران، ووجود لبنان غير المستقر في خاصرتها، ناهيك عن إسرائيل العدوانية… ومع ذلك لا يمكن القول إن مشاكل سوريا خارجية، بل هي بالأساس ذات طبيعة داخلية مرتبطة بأسلوب الحكم والتركيبة الاجتماعية للنظام. وكما قال خبير الشؤون السورية باتريك سيل، فإن التهديدين الأساسيين لاستقرار سوريا يكمنان في الجفاف والديموغرافية. فالجفاف الذي ضرب البلاد بين عامي 2006 و2010 كان الأسوأ منذ قرن من الزمن، بالإضافة إلى التزايد السكاني الذي فاقم مشكلة البطالة.
لكن رغم هذه الإضاءات، تبقى الأسئلة أكثر من الأجوبة في الموضوع السوري، فمن وقف مع الثورة السورية وساعد على انتشارها ومدها بالأسلحة وروج لها إعلامياً؟ ومن عزز الشعور الذي بدأ يتناقله الناس ويهمسون به في آذان بعضهم البعض من أن نظام الأسد قد انتهى؟ لماذا هذا الاستنتاج وما الذي دفع إليه؟ إن الأسد، ورغم الإشاعات، ما زال متمسكاً بالسلطة، يقود الحملة العسكرية، أو على الأقل بعض المقربين منه، ضد المعارضة، كما أنه ما زال يتكئ على جهاز أمني قوي يستمد عناصره الأساسية من المقربين إليه وأبناء طائفته التي تسيطر على مقاليد الأمور في سوريا منذ وصول والده، حافظ الأسد، إلى السلطة في انقلاب عسكري عام 1970؛ فم الذي يقلقه إذن مع جهاز أمني شرس وموالٍ إلى درجة كبيرة؟ الحقيقة أن ما يجب أن يقلق الأسد هو الاحتضان الدولي للحركة الاحتجاجية والتنظيمات المعارضة المطالبة برأسه، فما عادت الثورة مجرد احتجاجات مدنية يقوم بها الناشطون، بل تحولت إلى معارك ضارية واشتباكات متواصلة بين الثوار والقوات النظامية، والأكثر من ذلك انخراط قوى إقليمية في الصراع.
وفي روايته الشخصية للأحداث، حاول النظام تصوير الصراع الجاري في سوريا على أنه هجوم لعصابات ومرتزقة تحركها دول عربية، وبعض التنظيمات المتشددة مثل “القاعدة”، أو أن البلاد تتعرض لهجمة من “الإخوان المسلمين” الذين قاتلوا الرئيس الراحل حافظ الأسد. ثم ارتدت الرواية بعداً دولياً عندما ادعى النظام أن الاحتجاجات تحركها قوى عالمية مثل الولايات المتحدة وإسرائيل الساعيتين إلى ضرب الموقف السوري الصامد والمقاوم لإسرائيل، ولإفساح المجال أمام ضرب إيران لاحقاً، والهدف النهائي، حسب النظام دائماً، هو احتلال سوريا وإيران والسيطرة على النفط، كما حصل في العراق، وإن كان ما حصل هناك فعلا هو تراجع أميركا وتسليمها العراق على طبق من فضة لغريمتها إيران.
والحال أن رواية النظام لا تستقيم بل يعوزها المنطق؛ فكل ما يمكن أن يقوم به الغرب هو شن حملة جوية على إيران، وهو غير كاف لاحتلالها، كما أنه لا أحد في دوائر القرار الغربية يفكر في اجتياح بري لسوريا أو إيران. لكن إذا كان الغرب متحفظاً على التدخل العسكري المباشر، فهل يقوم بذلك عن طريق حلفاء له؟ وهل تستطيع قوى عربية، أو حتى إسرائيل، توريط نفسها في صراع طويل يؤجج المشاعر الوطنية والدينية ويوفر المجندين لتنظيم “القاعدة” و”حزب الله”؟ وحتى الفكرة التي تقول بانقسام سوريا على خطوط التماس الطائفية والعرقية وعدم الحاجة إلى قوة خارجية لضبط الأمور ما بعد الأسد، تشبه إلى حد كبير أوهام “المحافظين الجدد” الذين توقعوا قبل غزو العراق أن يستقبلهم شعبه بالزهور كما فعل الفرنسيون خلال الحرب العالمية الثانية!
وأمام هذه التعقيدات التي تسم الوضع السوري، يبقى الحل الأمثل للخروج من الأزمة استمرار الانخراط الدولي من خلال المزيد من جهود الوساطة والدفع في اتجاه المفاوضات مع أطراف الصراع. وهنا لابد من الاهتمام بالجانب الروسي الذي أبدى استعداده للتعاون إذا ما استُوعبت مصالحه الاقتصادية والسياسية الاستراتيجية في سوريا. لكن مع الأسف تتعامل واشنطن مع الوضع باعتباره فرصة لإخراج روسيا من البحر المتوسط، وهي سياسة ستفشل في النهاية وسيندم عليها أوباما.
الاتحاد