صفحات العالم

عن خذلان ‘العالم الحر’ للشعب السوري

 
مالك التريكي
في أواخر القرن الماضي نشر الروائي والصحافي الفرنسي جان دورمسون رواية بعنوان ‘تقرير جبريل’.
من هو جبريل؟ يجيب دورمسون: ‘إنه الملك الذي كان يتلو الوحي على موسى، وعيسى ومحمد’. هكذا. بالتسلسل التاريخي وبالأمانة العلمية التي لا بد من تقديرها حق قدرها إذا أخذ في الاعتبار أن دورمسون سليل عائلة أرستقراطية عريقة وأنه نشأ نشأة كاثوليكية تقليدية لا مكان فيها للاعتراف باتصال محمد صلى الله عليه وسلم بالوحي الإلهي. ولمن أراد فكرة عما كانت تروجه الكنيسة الكاثوليكية من أباطيل عن النبي، فحسبه الرجوع إلى كتاب عبد الرحمن بدوي ‘دفاع عن محمد ضد المنتقصين من قدره’.
تخيل الأديب الفرنسي الملك جبريل وقد نزل إلى هذه الدنيا في مهمة تقص لحقائق العالم المعاصر تنتهي برفع تقرير عن الأوضاع السائدة. أوضاع خارجة عن نطاق المعقولية. أوضاع تشجع على الجنون بعد أن تبعث على اليأس من إمكان الاهتداء إلى أي معنى. أوضاع عبثية لا منطق فيها و’لا رأس ولا أساس’، كما يقول المثل الشعبي.
تذكرت هذه الرواية بعدما شاهدت في بعض المواقع الإخبارية صورة لمتظاهرين في قرية سورية يرفعون لافتة كتب عليها الشعار التالي:
‘يسقط النظام والمعارضة… تسقط الأمة العربية والإسلامية. يسقط مجلس الأمن… يسقط العالم… يسقط كل شيء…’. لافتة غريبة عجيبة. لافتة صاعقة.
من شبه الأكيد أنه لم يرفع مثيل لها في أي من الثورات التي عرفتها البشرية منذ أواخر القرن الثامن عشر. شعار يساوي بين النقائض ثم يحكم عليها جميعها بالإعدام! شعار تصطرع فيه أضداد المرجعيات بلوغا إلى إنهاء العالم، فحذف الكون كله بجميع احتمالات الوجود فيه: ‘يسقط كل شيء…’!
لو طلب اليوم إعداد نسخة جديدة من ‘تقرير جبريل’، فماذا يمكن أن يقال تلخيصا لأحوال الدنيا؟
ماذا يمكن أن يقال عن عالم لا يزال مليار من سكانه (أي سبع البشرية) يعانون من الجوع رغم وفرة الإنتاج الغذائي، ولا تزال كثير من شعوبه تعيش تحت نير الاستبداد المرتكس إلى غياهب الغريزة، ولا يزال من الممكن لبعض حكامه أن يعملوا في شعوبهم تقتيلا وتشريدا بينما يستمر النزهاء (ومن هم غير ذلك) في التمسك بوطنية تتلخص في رفض التدخل الأجنبي تحت أي ظرف كان، حتى لو فني الشعب بأجمعه.
ما الذي يدفع ببلدة سورية إلى الكفر بكل شىء: الحاكم والساعي إلى الحكم، الإخوة (المفترضين بحكم أواصر العروبة والدين!) والأغراب، الحضارة والوجود؟! ما الذي يدفع بجزء من الشعب السوري إلى بلوغ هذه العدمية (التي لا تخلو من ومضة شعرية)؟ إنه ما سمته الفنانة السورية النبيلة فدوى سليمان بـ’تخلي العالم عن الشعب السوري وتركه وحيدا أمام ماكينة الحرب التي يشنها النظام’. إنه اللامعنى. سيادة اللامعنى وهيمنته على صيرورة العالم. مجلس أمن لا يزال يقرر شؤون القرن الحادي والعشرين بمنطق ميزان قوى يعود إلى اللحظة التي تقررت فيها نتيجة الحرب العالمية الثانية عام 1945.
وفيتو سياسي له قوة النفاذ القانوني! وعرب يملؤون رزنامة الغدو والرواح الدبلوماسية بمقترحات حلول أخوية ‘للخروج من الأزمة’ و’لإنهاء العنف أيا كان مأتاه’، علما أنه قد تعذر تبين الخيط الأبيض من الأسود وتقرير حقيقة ما إذا كان المتظاهرون يتعرضون للقتل فعلا أم لا!
كأن انعدام القتل يعني انتهاء الأمر. كأن المظاهرات الشعبية اندلعت قبل عام بسب… القتل الذي علم المتظاهرون سلفا أنه سيرتكب طيلة الشهور اللاحقة، وليس احتجاجا على القمع المستمر على مدى الأعوام، بل العقود، السابقة!
الذي يدفع ببلدة سورية إلى الكفر بكل شيء عام 2012 هو بالضبط ما دفع بالشاعر الشعبي عبد الرحمن الكافي إلى الحكم بالإعدام على الدنيا بأسرها عام 1920 في قصيدة بالعامية التونسية بعنوان ‘الصبر لله والرجوع لربي’. قصيدة شهيرة فيها إعصار من التمرد الراديكالي الذي يبلغ حد البذاءة… المقصودة.
لذلك أدرجها الباحث علي بلحولة في كتابه ‘الجهاد في الشعر الشعبي’.
جهاد الكفاح ضد الاحتلال. جهاد الثورة على كل صنوف الظلم، ‘الأخوي’ منه قبل الأجنبي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى