العدالة الانتقالية:لماذا تنجح في مكان وتفشل في آخر؟/ محمد. م الأرناؤوط
تمثل العدالة الانتقالية موضوعا راهنا في المنطقة بحكم ما آلت إليه الأمور في السنوات الأخيرة، بعدما تحولت الحراكات الشعبية المطالبة بالديمقراطية والكرامة إلى نزاعات مسلحة تغذيها أطراف إقليمية ودولية لأجندتها الخاصة، وهو ما يعقد سيرورة العدالة الانتقالية التي لا بد أن تأخذ بعين الاعتبار تجارب المناطق الأخرى في العالم.
ومن هذه المناطق التي اشتهرت بالنزاعات المسلحة والحروب الأهلية والتدخلات الإقليمية لدينا البلقان الذي صدّر إلى العالم مصطلح “البلقنة” منذ أكثر من قرن. وفي هذا السياق لدينا المؤلف الأخير للكاتب والناشر الكوسوفي المعروف على النطاق الأوروبي فيتون سوروي “الغوريلات التي لم نلحظها” ، الذي صدر في صيف 2017 (بريشتينا، دار كوها) وأصبح على رأس الكتب الأكثر قراءة خلال 2017.
في هذا الكتاب للمؤلف الذي يغرّد دائما خارج السرب الحكومي لدينا مقاربات نقدية لما آل عليه الحال بعد حرب 1999 التي أنهت حروب يوغسلافيا السابقة، وخاصة فيما يتعلق بتعثر “العدالة الانتقالية”، التي لم تؤخذ بجدية من “الحكومات الديموقراطية” التي جاءت بعد “الديكتاتوريات” مما جعل جروح الماضي تجتر المزيد من التوترات. وفي هذا السياق ينطلق المؤلف من الحالات الناجحة في أشهر حالتين (تشيلي جنوب أفريقيا) ليصل إلى تعثر العدالة الانتقالية في الدولتين اللتان ورثتا عبئا كبيرا من حرب 1999 (صربيا وكوسوفو) لا يزال يعيق المصالحة بين الصرب والألبان.
ما يتناوله ويقوله فيتون سوروي مهم للمنطقة هنا بسبب تداخل النزاعات والروايات في البلقان حول المسؤولية عما حدث في الحروب، وبالتالي وجود دور مركب (الضحية والجلاد) لدى كل طرف يختلف تماما عن الطرف الآخر ويؤدي إلى عدم الخروج من الماضي المثقل بالجروح.
ينطلق المؤلف من الأمثلة الناجحة مثل تشيلي وجنوب أفريقيا. ففي تشيلي جاء الانقلاب على الرئيس الشرعي سلفادور إليندي في 11/9/ 1973 ليدخل البلاد في نزاع مسلح بين اليمين العسكري واليسار الديموقراطي الذي استمر سنوات طويلة. ولكن مع التحول إلى الديموقراطية وتولي الرئيس الجديد باتريسيو أيلوين الحكم أصدر في 1990 قرارا بتشكيل “لجنة الحقيقة والمصالحة” التي برز فيها دور الناشط الحقوقي خوسيه زالاكويت J.Zalaquett الذي كان من ضحايا انقلاب الجنرال بينوشه في 1973. ولكن زالكويت لم يبق حبيس تجربته الشخصية ونزعة الانتقام بل أراد من مفهوم “لجنة الحقيقة والمصالحة” أن يخلّص تشيلي من عبء الماضي بالتوصل إلى رواية دقيقة (وسط روايتين متناقضتين عما حدث) تفضي إلى الاعتراف بما حدث بالفعل والتعبير عن الندم وصولا إلى الملاحقة.
وبهذا الشكل وضع زالاكويت أربعة أسس لنجاح مثل هذه اللجان التي أصبحت تشتهر باسم “الحقيقة والمصالحة:
1- أن تركز على الماضي لا على التطورات الحالية.
2- أن تبحث عن ضحايا الإحداث التي جرت خلال فترة محددة.
3-أن تعمل بحرية وسط السكان الذين كانوا ضحية الأحداث.
4- أن يستمر عمالها حتى إقرار التقرير النهائي وتسليمه لرأس الحكم الجديد الذي قام بتشكيل اللجنة.
في هذا السياق بلور زالاكويت مفهوم “لجنة الحقيقة والمصالحة” الذي يقوم على الاعتراف بالذنب لضمان عدم تكراره بالاستناد إلى التراث الثقافي المسيحي (التكفير عن الذنب والندم والعفو والصلح). وهكذا فقد شمل التقرير النهائي كل أنواع الضحايا الذين سقطوا من الطرفين، أي سواء من قبل النظام الانقلابي أو من قبل المعارضة المسلحة التي قاومت الانقلاب باغتيال رموزه من ضباط الشرطة والجيش.
وعلى هذا النحو جاءت أيضا تجربة ناجحة أخرى في جنوب أفريقيا بفضل حكمة الرئيس الجديد نلسون مانديلا، الذي كان من ضحايا النظام العنصري مثل زالاكويت ولكنه لم يبق حبيس الرغبة بالانتقام من جلاديه وعرف كيف يقود بلاده من خلال”لجنة الحقيقة والمصالحة” إلى ماهي عليه من نموذج ناجح للعدالة الانتقالية.
ولكن أحد أعضاء “لجنة الحقيقة والمصالحة” في جنوب أفريقيا، الناشط الأبيض في حقوق الإنسان ألكسندر بوراين A.Borraine، تحمّس للذهاب إلى بلغراد عقب سقوط “الدكتاتور” سلوبودان ميلوشيفيتش في خريف 2000 ليكتشف هناك وضعا مختلفا تناوله في كتابه “الإبادة الجماعية والمساءلة” (أمستردام 2004). كانت صربيا في حالة ترنح من حرب 1999 وانقسام مجتمعي حول ما حدث في 1999 وهو ما أعاق خلاصها وتقدّمها إلى الأمام بالمقارنة مع جنوب أفريقيا. في بلغراد وجد بوراين حالة مختلفة لخّصها بما يلي “كان من الواضح أن أحد الأسباب التي تعيق تحرك البلاد من الماضي الأسود إلى ديمقراطية متنورة يكمن في أن المؤسسات بقيت هي نفسها تقريبا: قواد الشرطة هم أنفسهم لا يزالون يسيطرون على جهاز الشرطة وجنرالات الجيش هم أنفسهم لا يزالون يسيطرون على الجيش. صحيح أن هذه البلاد تغيّر فيها القادة السياسيون ولكن إذا لم يتم إعادة هيكلة المؤسسات بشكل راديكالي ستكون هناك احتمالات ضعيفة للنمو والتطور والسلم في صربيا”.
كانت هذه رؤية نبوية بالفعل لأن السنوات القادمة أثبتت صحتها، وبالتحديد كم تعثرت صربيا نتيجة لذلك. صحيح، كما يقول سوروي إن الرئيس الصربي “الديمقراطي” فويسلاف كوشتونيتسا الذي جاء بعد”الديكتاتور” ميلوشيفيتش أصدر قرارا بتشكيل “لجنة الحقيقة والمصالحة” في 2002 ولكنها كانت مجرد إجراء شكلي موجه للغرب لكي يوحي أن صربيا تتحرك للتخلص من عبء الماضي وهي بحاجة إلى مساعدات من الغرب. وهكذا انتهى عمل اللجنة في 2006 دون أن يشعر أحد بعملها أو بأي تأثير لما قامت به، وهو ما يذكّر بما قاله بوراين في كتابه المنشور في 2004: صحيح أن صربيا أصبح لديها رئيس “ديمقراطي” بعد رئيس “ديكتاتوري” ولكن النظام الأمني والعسكري بقي كما هو. فرئيس أركان الجيش اليوغسلافي في كوسوفو فلاديمير لازاريفيتش قام بجرائم حرب ضد الإنسانية، ولكن ميلوشيفيتش كرّمه بأعلى وسام بعد نهاية حرب 1999 وعودته إلى صربيا، ومع أن محكمة جرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة بلاهاي حكمت عليه بالسجن 15 سنة لارتكابه “جرائم حرب ضد الانسانية” إلا أنه بقي يعتبر “بطلا قوميا” في صربيا وهو ما تمثل في قيام الحكومة بإرسال طائرة خاصة لحملة من لاهاي إلى صربيا بعد إطلاق سراحه في 2015، حيث كان في استقباله وزير الدفاع ووزير العدل في صربيا للترحيب به كبطل وليس كمجرم حرب!
في غضون ذلك دخلت صربيا وكوسوفو منذ 2011 في مفاوضات بروكسل بتوسط الاتحاد الأوروبي، ولكن ما أنجز خلال 2011-2017 لا يكاد يذكر نظرا لأن كل بلد فشل في إنجاز “الحقيقة والمصالحة” وبقي كل طرف على روايته على ما حدث في 1999 وهو ما أعاق، بنظر المؤلف، أن تنجح صربيا وكوسوفو فيما نجحت فيه فرنسا وألمانيا بعد حرب 1945. ففي محاكمات نورمبرغ تمّت إدانة مجرمي الحرب وهو ما سمح لاحقا بتقارب فرنسي- ألماني تمثل في معاهدة 1951 ثم في إعلان روما 1957 الذي يعتبر نواة الاتحاد الأوربي الذي لا يزال يقوم على الثنائي الفرنسي- الألماني.
مقابل هذا النجاح لدينا فشل كبير في البلقان نتيجة لعدم إنجاز أي تقدم ما بين الصرب والألبان بعد حرب 1999 نتيجة لعدم الاستفادة من تجربة تشيلي وجنوب أفريقيا في مجال العدالة الانتقالية من خلال لجان “الحقيقة والمصالحة”، حيث كان يمكن لهذا أن يؤدي إلى قلب الأوضاع في غرب البلقان لصالح تصالح صربي- ألباني ينعكس بشكل إيجابي على كل المنطقة. في هذا السياق لا يتوقف سوروي، وبما عُرف عنه من نزعة نقدية، عند مسؤولية صربيا بل إنه يحمّل المسؤولية ذاتها لحكومات بلاده المتعاقبة منذ 1999 التي لم تبادر حتى الآن إلى تشكيل “لجنة الحقيقة والمصالحة” لأن الحكومات المتعاقبة تستمد شرعيتها من رواية واحدة لما حدث في 1999 ولا تريد أن تعترف لـ “جيش تحرير كوسوفو” (الذي تستمد شرعيتها منه) بأي دور في جرائم الحرب التي جرت خلال 1998-1999 سواء ضد المدنيين الصرب أو المعارضين الألبان لخطّه السياسي.
ومع هذا الفشل لجأ المجتمع الدولي (كما في حالة صربيا) في 2017 إلى تشكيل محكمة دولية عن جرائم الحرب في كوسوفو في 1998-1999 ، ولكن المشكلة في كوسوفو هي كما كانت في صربيا: إن من تعتبرهم حكومات بريشتينا “أبطالا” في حرب 1998-1999 هم من تعتبرهم حكومات بلغراد “إرهابيين”، حتى أن رئيس جمهورية كوسوفو هاشم ثاتشي لا يزال يُصنّف في بلغراد “إرهابيا” وهو مطلوب إلى الآن بحكم محكمة صربية بالسجن لمدة عشر سنوات لمشاركته في هجوم على مخفر صربي في 1998 أدى إلى قتل شرطيين.
كتاب فيتون سوروي عن تجربة البلقان الفاشلة في العدالة الانتقالية مفيد للمنطقة هنا التي تحتاج أكثر من غيرها إلى مثل هذه العدالة بالاستناد إلى حجم جرائم الحرب والضحايا الذي تراكم في السنوات الأخيرة.
ضفة ثالثة