الـ”ميمز” السوري الحُرّ
وليد بركسية
بعد عقود من الغياب القسري للحياة السياسية عن المجتمع السوري، فجّر السوريون الكثير من مكبوتاتهم الفكرية وحتى الكومدية، ومخزون سنين طويلة من القمع، خلال العامين الماضيين الزاخرين بتحولات جذرية ليست أقل من ثورة، وذلك عبر مختلف أشكال التعبير. من أكثر هذه الطرق إنتشاراً اليوم، الرسوم الساخرة المعروفة بالـ Memes والتي تشهد انتشاراً كبيراً على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي هذه الأيام.
“الميمز” هي تلك الرسوم البسيطة الساخرة، تمثّل شخصيات أو وجوهاً مكررة على المستوى العالمي وبمضامين ثقافية مختلفة، وتأتي في هيئة صورة واحدة أو سلسلة صور متعاقبة ترمز إلى فكرة ما. قد تكون شخصية نابعة من ذكريات الطفولة، أو ناقدة للأوضاع السياسية والاجتماعية، أو مجرد نكتة عابرة لإشاعة جو من المرح، معتمدة أساليب المبالغة والمفاجأة في الطرح استناداً إلى الثقافات المحلية، مع إمكان إضافة تعليقات باللهجات العامية.
تعود جذور كلمة Meme إلى اللغة اليونانية القديمة، وهي اختصار لكلمة mimeme بمعنى المحاكاة والتقليد، ثم استخدمها عالم السلوك والتطور البشري ريتشارد دواكينز العام 1976 في كتابه “الجين الأناني The Selfish Gene” للتعبير عن الأيقونات والرموز الثقافية وطرق انتشارها بين البشر. ثم عززت الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي تلك الفكرة، إذ تظهر من فترة إلى أخرى رموز عالمية للتعبير عن الأفكار، يتم تداولها في العالم الإفتراضي، لكنها، رغم تشابهها الخارجي، تحمل مضامين تعبر عن ثقافات متعددة.
وفي هذا الإطار، يزخر “فايسبوك” اليوم بكثير من “الميمز” التي شقت طريقها إلى أساليب التعبير العربية المعاصرة بشكل خلاق فعلاً، ويمكن النظر إليها كمرادف افتراضي للرسوم والكتابات التي تغطي جدران الشوراع في مدن كالقاهرة وتونس وحتى المدن السورية مثل الرقة وسراقب، وقد تحاكي أيضاً التطور التاريخي الطبيعي لفن الكاريكاتور الصحافي، إذ نقلت التكنولوجيا تلك الفنون، ذات المهارات الخاصة، إلى عامة الناس للتعبير عن أفكارهم بسهولة.
لا توجد دلائل واضحة لتوقيت ظهور أولى “الميمز” الخاصة بالتعبير السياسي والإجتماعي في سوريا والعالم العربي عموماً، لكن شدتها وكثافتها إزدادتا بشكل واضح بعد موجة الربيع العربي التي اجتاحت المنطقة، مع ملاحظة الحدود المحلية الضيقة لكل “ميم” على حدة، ما يعكس إلتصاقها الشديد بشخصية صاحبها وعكسها لرأيه. ولا يمنع ذلك استنساخها في أماكن أخرى من قبل أفراد آخرين لدى تشابه الظروف وتكرار الحالات، ولا يتطلب انتشارها أكثر من Like (اعجاب) أو Share (شارك) ليتداولها في ذات اللحظة عدد لا محدود من الجمهور في الفضاء الإفتراضي.
بناء على ذلك، يبدو فن “الميمز” في سوريا اليوم – التي تشهد ما قد يصنف حرباً أهلية – ما زالت تأخذ شكل سجال ساذج بين المؤيدين والمعارضين للنظام السوري على شاكلة الإعلام التقليدي، فتأتي في الغالب فجة وسطحية ومباشرة وأقرب إلى الوقاحة من الطرفين، وينقصها، ربما، نضوج فني، ولا يبدو عليها التطور كنظيرتها التي تهتم بالشق الإنساني والذي يجمع السوريين على اختلاف توجهاتهم الفكرية والسياسية وحتى الثقافية. إذ تطور الشق الإنساني ذاك إلى ما يشبه الكوميديا السوداء العميقة، ليعمل على تحويل دموع المأساة الراهنة إلى ابتسامة مريرة، حالمة بالسلام والحرية وبوقف نزيف الدماء.
لا ينفي ذلك، في الأحوال كافة، تعدد الأساليب التي تنتهجها “الميمز” السورية في نقدها السياسي، من الاستهزاء بالشكل الخارجي (وزير الخارجية وليد المعلم) إلى التلاعب بالألفاظ والإستناد إلى المخزون الشعبي ومشاهير الفن (باراك أوباما)، ولا تتوقف عند السياسيين بل تدمج الإعلام بالصورة الكلية للمشهد العام مستندة إلى الصورة الذهنية نمتلكها في رؤوسنا عن نجوم الإعلام العربي (فيصل القاسم)، مركزة على المبالغات في الخطابات الرنانة للسياسيين والإعلاميين (خالد العبود) أوعلى عقد مقارنات بين الماضي والحاضر دون مواربة أو مجاملة لأحد (سمير جعجع)، كما لا تتوانى عن إقحام كلمات خارجة عن حدود الأدب واللياقة لإيصال فكرتها في حال لزم الأمر.
جدير الذكر، أن “الفايسبوك” يزخر اليوم بعدد كبير من الصفحات السورية المتخصصة في “الميمز” الساخرة، ومنها على سبيل المثال Syrian memes و Syrian RevolutionMemes وMAP (Memes of Arab Politics)، مع وفرة ملحوظة في المتابعين لها، حيث تضم صفحة Syrian memes مثلاً قرابة ال250 ألف مشترك يمكن تسميتهم جزافاً بالجمهور، ما يعطي مؤشرات واضحة عن تنامي الدور الذي تلعبه الرسوم الساخرة المعاصرة في العالم الافتراضي وتأثيرها المحتمل على متتبعيها، إضافة لدورها الأساسي كأداة حديثة للتعبير الحر عن الرأي.
المدن