سورية … وفاة بلد
إن تفتّت سورية يهدد مجمل الشرق الأوسط وعلى العالم الخارجي أن يتحرك قبل فوات الأوان
اقتطعت سورية من جثة الامبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى , ونالت استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية , وهي مهددة بأن تكف عن أن تكون دولة في ظل الصراع الذي يستعر فيها اليوم .
سورية الواقعة بين تركيا ولبنان والعراق والأردن وإسرائيل تتفتت بينما يتفرج العالم أو يشيح بنظره . من الممكن أن ينهار نظام الأسد محيلا البلاد إلى الفوضى , ومن المحتمل أن يستمر هذا النظام في القتال انطلاقا من مناطق محصنة لبعض الوقت , ولكن الأحتمال الآخر والذي يبدو مرجحا بشكل متزايد , أن سورية ستقع فريسة الصراع بين أمراء الحرب والإسلاميين والعصابات , في وضعية مماثلة لحالة التعفن الصومالية في قلب شرق المتوسط , وإذا حصل ذلك فإن الملايين سيفقدون حياتهم . إن سورية المجزأة ستكون مصدرا لتغذية الحركات الجهادية عبر العالم , وعاملا لإذكاء الصراعات والتناقضات العنيفة في الشرق الأوسط .
مازالت أسلحة الأسد الكيميائية مؤمنة حتى الآن , ولكنها مهددة بالوقوع في الأيدي الخطأ بشكل دائم , وهذه الكارثة إذا وقعت فإنها ستؤثر بالشرق الأوسط كاملا بل بالعالم أجمع , وحتى الآن فإن العالم الخارجي بما فيه الولايات المتحدة لم يفعل شيئا تقريبا لتجنب ذلك .
الطريق من دمشق :
يتمثل جانب من سبب التردد الغربي تجاه الأزمة السورية بالتالي : منذ بداية الانتفاضة عام 2011, تبنى الأسد العنف كاستراتيجية لمواجهة الموقف , وعبر مهاجمة الربيع العربي بالدبابات والحوامات , فإنه حول المتظاهرين السلميين إلى ميليشيات مسلحة , وعبر قصف المدن قام بتشريد شعبه , وعبر دفع إخوته من العلويين إلى ذبح الأغلبية السنية , فإنه خلق البيئة الملائمة لصعود الجهاديين , و أقنع السوريين من الطوائف الأخرى بالوقوف إلى جانبه من خلال تخويفهم من الانتقام المرعب الذي سيعقب سقوطه .
يسيل الدم السوري اليوم بدون حساب , والأحقاد الطائفية جمر ملتهب تحت الرماد , ويمكن للقتال أن يمتد لسنوات . تمكنت مجموعات الثوار مؤخرا من الاستيلاء على قواعد عسكرية , وهم يسيطرون على أجزاء من شمال البلاد وشرقها , ويقاتلون في المدن الكبرى . ولكن الثوار يتنافسون تارة ويتحالفون طورا , وقد بدأوا باستهداف بعضهم تماما كما يستهدفون كتائب الجيش النظامي .
حتى لو كان الأسد غير قادر على السيطرة على البلاد , فإن لديه جميع الأسباب لمواصلة القتال , فهو لا يزال يتمتع بالإخلاص والولاء المطلق من بعض أبناء الطائفة العلوية , وبالدعم المشوب بالتذمر من السوريين الآخرين الذين يخافون المستقبل .
يقود الأسد ما يقدر بخمسين ألفا تقريبا من الكتائب الموالية و المسلحة بشكل جيد , بالإضافة إلى عشرات الآلاف من المقاتلين الأقل تدريبا وولاء .بالإضافة إلى أنه مدعوم من روسيا وإيران والعراق , ويشمل الدعم , التزويد بالمال والسلاح و المشورة و إرسال القوات , ناهيك عن القوات التي يرسلها حزب الله الذي يعتبر أقوى الميليشيات اللبنانية . حتما فإن الأسد غير قادر على الانتصار في هذه الحرب , ولكن ما لم تحدث ضربة حظ غير متوقعة , فإنه مايزال بعيدا جدا عن الهزيمة .
حتى الآن كلف القتال سبعين ألف ضحية أو أكثر , عشرات آلاف المفقودين , وقام النظام باعتقال بين 150 و 200 ألف شخص , أكثر من مليوني شخص مشردين داخل سورية يكافحون للحصول على الطعام والمأوى , ويعيش أكثر من مليون شخص في ظروف سيئة عبر الحدود .
تبدو معاناة بهذا الحجم غير معقولة , كان هذا هو الدرس الذي تعلمناه من الإبادة الجماعية والحروب الأهلية التي شوهت النصف الثاني من القرن المنصرم , ومع ذلك فإن الرئيس باراك أوباما يقول أن حماية البشر من القتل لا يشكل الأرضية الكافية للتدخل العسكري , لقد تعلم من خلال الحالة العراقية والأفغانية كم هو صعب فرض السلام , وتخاف الولايات المتحدة من الغرق في الفوضى التي خلقها الأسد , لقد انتخب أوباما لكسب المعارك الاقتصادية المحلية , وهو مقتنع أن أميركا المنهكة يجب أن تبقى بعيدة عن أي تورط خارجي .
يبدو هذا الاستنتاج منطقيا , ولكنه مخطئ , فباعتبارها القوة العظمى في العالم فإنه من المرجح أن تتورط أميركا في سورية في آخر المطاف , فحتى لو تمكن الرئيس من رفض المطالبات الانسانية , فإنه من الصعب عليه بمكان أن يتجاهل مصالح بلاده .
إن استمرار القتال سيحول سورية إلى خليط متنافر من المناطق المتنازعة , وهذا سيجعل جميع الأمور التي تسعى أميركا لتحقيقها في الشرق الأوسط أصعب , وذلك يشمل احتواء الارهاب وتأمين مصادر الطاقة , ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل . وعلى العكس فإن أحداث من قبيل الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت 15 عاما , وتفتت سورية , يهدد كل هذه المشاريع .
حوالي خمس الثوار – وهم من الجموعات الأكثر تنظيما – جهاديون , وهم يشكلون تهديدا للسوريين المعتدلين الذي يضمون مسلمين سنة , وهم قد يستخدمون المناطق الغير خاضعة لسلطة القانون , كقاعدة للإرهاب الدولي . وإذا قاموا بتهديد الحدود الاسرائيلية عبر مرتفعات الجولان , فإن إسرائيل ستدافع عن نفسها بشراسة , مما سيلهب الرأي العام العربي .
إن تقسيم سورية سيؤدي إلى تقسيم لبنان , فالأسديون سيعملون على تحريك حلفائهم هناك , كما أن تدفق اللاجئين والإسلاميين سيزعزع استقرار الأردن البلد الفقير والهش , أما العراق الغني بالنفط و الذي يشكل الشيعة أغلبية سكانه , فإنه سيواجه صعوبة كبيرة في الحفاظ على وحدته , فانخراط المسلمون السنة في الصراع سيؤدي إلى تعميق الانقسامات هناك .
إن نتائج الانهيار السوري , والتي تشمل ترسانة الأسد من الأسلحة الكيميائية , سيعقد عملية منع إيران من حيازة السلاح النووي , وهكذا فإن السيد أوباما الذي يريد تجنب سورية , سيجد نفسه محكوما بنتائج الوضع هناك .
عدم التصرف هو سياسة أيضا .
إن الوضع في سورية اليوم أكثر خطورة مما كان عليه في تشرين الأول المنصرم , عندما طالبت هذه الصحيفة بفرض منطقة حظر جوي , لكبح سلاح الأسد الجوي , وقد أثبتت سياسة أوباما في انتظار الحريق السوري ليحرق نفسه فشلها , وعليه أن يتصرف قبل أن تسوء الأمور بشكل أكبر , ويجب أن يكون هدفه الحفاظ على ما تبقى من سورية , وهذا يعني محاولة إقناع الأشخاص المحيطين بالأسد , بأن عليهم الاختيار بين الهزيمة الساحقة وطرد عائلة الأسد كمقدمة لبدء التفاوض مع الثوار , ولا تزال هناك حاجة لفرض منطقة حظر جوي لضمان شل سلاح الطيران , وتدمير بعض الصواريخ التي بحوزة الأسد , وهي ستكون إشارة قوية وواضحة عن عزم أميركا لمناصري الأسد .
كما ويتوجب على أميركا الاعتراف بحكومة انتقالية , مشكلة من المعارضين السوريين , و دعم المجموعات غير الجهادية بين الثوار , بما يتضمن عدد محدود من الصواريخ المضادة للطائرات . ستدعم بريطانيا وفرنسا هذا التوجه رغم أن أوربيون آخرون سيعارضونه . أما بالنسبة لروسيا فإن دعمها للنظام السوري هو في أحد وجوهه طريقة لإحباط أوباما , وعلى الاميركيين والأوربيين الاستمرار في محاولة إقناعها بالتخلي عنه , من خلال وعدها بحصة في سورية المحررة .
ليس هناك ضمانة أن هذه السياسة ستنجح , ولكنها على الأقل ستؤدي إلى إيجاد روابط بين أميركا و المجموعات غير الجهادية بين الثوار , والذين ستحتاجهم أميركا كحلفاء في الفوضى التي ستحدث فيما لو بقي الأسد .
اليوم يشعر هؤلاء السوريون المعتدلون بأنهم مخذولون بشكل كامل .
!
/23/شباط /2013 – صحيفة الإيكونوميست
ترجمة وتعقيب : سنديان
دمشق 22/2/2013
الشكر موصول لباسل
رابط المقال الاصلي باللغة الإنكليزية :
http://www.economist.com/news/leaders/21572193-syria-disintegrates-it-threatens-entire-middle-east-outside-world-needs-act
تعقيب :
تبدو المقالة جيدة في قراءة سريعة , جيدة لجهة انحيازها بشكل كلي لطرف الشعب السوري ضد النظام , و البعد عن الأسلوب المقيت الذي يدعي المنطق والاتزان في كتابات الغرب حول القضية السورية , لجهة حساسيتها , ومسائل الأقليات و رهاب الإسلاميين , والذي تبنى في الفترة الأخيرة جملة مواضعات منها تثبيت مفردة الحرب الأهلية و الاقتتال الداخلي لتوصيف الوضع وإسقاط أو استبعاد مفردة الثورة أو الانتفاضة من التداول , ومنها طروحات تؤدي إلى مساواة الطرفين ببعضهما لناحية العنف وجرائم الحرب المرتكبة .
كل هذا صحيح , ولكن نقطة الضعف الرئيسية في ما تطرحه المقالة , يكمن في تقدير دوافع السياسة الأميركية تجاه سورية , و تقييم أساليبها ونتائجها , في ظل تجاهل كامل في المحدد الرئيس لهذه السياسة , وهو موقف إسرائيل مما يجري .
قطعا فإن الاعتماد على الآخر , ممثلا بصورة رئيسية بالعالم الغربي , لإسقاط النظام , كان أحد أكبر مهالك الثورة السورية , والسوريين بشكل عام , وقد تكرس هذا الاعتماد بناء على التصريحات النارية التي رافقت العام الاول للثورة , والتي أطلقها سياسيون أوربيون وأميركيون بوقاحة قل نظيرها , من دون أن يكون لها أي انعكاس يذكر على تطور الأمور , وقد ساهمت ركاكة وقلة خبرة وفساد أغلب وجوه المعارضة السورية في إيقاعنا في هذا الفخ .
من الثابت اليوم بعد كل ما جرى أن أميركا ليست معنية من قريب أو بعيد , بمستقبل السوريين , أو حياتهم أو معاناتهم , هي معنية فقط بجملة مصالح وارتباطات في المنطقة , والأكيد أن الارتباط الملك هنا هو ارتباطها باسرائيل , التي تشكل أهم داعمي النظام السوري في كواليس السياسة الدولية , والتي تتواطئ مع إيران وروسيا لإبقائه قائما , ولكل سببه .
كما أن العقلية الاستعمارية المتضمنة في المقال واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار , وتبدو فاقعة في مطالبة أميركا وأوربا بإقناع روسيا بالتخلي عن الأسد من خلال وعدها في حصة في سورية المحررة – لا نعلم طبعا كيف يمكن لبلد محرر أن يكون محل محاصصة من أي نوع – , وقد لا يضيرنا ذلك إذ أننا في وضع من التهالك , الذي سيجبرنا مع تطوره نحو الأسوء على القبول بأي شيء , حتى لو بانتداب جديد .
ولكن لا أظن أن صناع القرار , في العالم الغربي الحر جدا , لم يدر لهم في خلد , ما اقترحه الكاتب هنا , لأنها اقتراحات لا تحتاج لكثير تمحيص , للوصول إليها , ولكنهم وباختصار ليسوا معنيين مطلقا , بالاشتراك مع قوى إقليمية , تشمل دولا تصنف داعمة للثورة السورية , برؤية سورية دولة مدنية مستقرة , قد يكون همهم هو العكس , وقد يكون هدفهم بالتحديد ما ينفذه نظام آل الأسد اليوم ميدانيا .
إن الاطلاع على هذه المقالات مفيد , وحيوي, ولكن الواضح اليوم بالنسبة لنا كسوريين أن السبيل الوحيد الذي يختفي يوما بعد يوم , هو نسيان الخارج ولو بقدر , والتوجه إلى الداخل , ففي الداخل تكمن المشكلة , ويكمن الحل أيضا , وفي الداخل يوجد ما تبقى من سورية , ووحدنا المعنيون بانقاذها .
أختم بعبارة قالها الاستاذ ميشيل كيلو على أحد الفضائيات العربية منذ أكثر من عام : ” إن الغرب لن يتدخل في سورية , سيتدخل فقط لو شعر أن الثورة السورية تقترب من تحقيق أهدافها , وسيتدخل لحرمانها من إنجاز ذلك ” .