عن أربع سنوات برفقة بورخيس/ حسن داوود
يبدأ ألبرتو مانغويل سيرة رفقته لبورخيس من حيث يجب أن تبدأ، من عنوان الشقّة التي يقيم فيها الأخير في 944 شارع ميبو، ومن ضغطه على الزرّ ذي الرقم B6. ثم، بعد أن تفتح الخادمة الباب، يظهر بورخيس “من وراء ستارة كثيفة، محتفظا باستقامته إلى أبعد الحدود. بزّته الرمادية مزرّرة، ياقته البيضاء وربطة عنقه المخططة غير متناسقتين قليلا. متثاقلا بعض الشيء وهو يتقدّم نحوي.. أعمى منذ كان في أواخر خمسينه”.
كان الإثنان قد التقيا في مكتبة “بيغماليون” ببيونس آيرس” حيث كان مانغويل يعمل، وهو بعد في السادسة عشرة من عمره. سأله بورخيس إن كان لديه وقت إضافي ليقرأ له، وهو السؤال الذي يتوجّه به إلى أيّ كان من الطلبة والصحافيين الذين قدموا لإجراء مقابلات معه، وكذلك إلى الكتّاب. وهكذا انضمّ مانغويل إلى القارئين الكثر مستمرا في عمله أربع سنوات كاملة، من 1964 إلى 1968 (من دون أن يذكر في كتاب سيرته إن كان قارىء بورخيس الوحيد في تلك الفترة).
من فور دخول القارىء الشاب، بل القارىء الفتى، أي من فور ما مدّ له بورخيس يده مصافحا، سمعه يقول، بعد أن جلس على أريكة مواجهة للمدخل: هل نقرأ كيبلينغ اليوم؟
كانت تلك أوّل جلسة قراءة، أو أول الرحلة لمعرفة ذلك الرجل الذي قال مرّة إنه تخيّل الفردوس على شكلّ مكتبة. ومثلما فوجئ فارغاس يوسا بصغر الشقة تلك، تفاجأ مانغويل بقلّة ما تحتويه من كتب. كان حجمها “يبعث على خيبة الأمل، وقد تُركت لها الزوايا المهملة من البيت”. لكن في الحقائب (التي لا بد كانت على مدى سنوات كثيرة مرافقة لحاملها في تجواله) كانت هناك مجموعات كتب لمؤلّفين عدّدهم مانغويل، واحدا واحدا على وجه التقريب، وهذا رغم إهماله نصيحة جدّته له بأن يحمل دفترا يدوّن عليه مشاهداته ويومياته مع الكاتب المولعة به.
بين الكتب احتلّت الموسوعات والملاحم الحيّز الأكبر. في ما يتعلّق بالأولى كان يعود ذلك التعلّق إلى فترات حياته الأولى، آن كان أبوه يأخذه إلى المكتبة. كان يفتح جزء الموسوعة الضخم على كلمة إعتباطية فيروح يقرأ، حتى الحفظ، أشياء تتعلّق بجغرافية العالم وحروبه ورجاله. وها هي شائعة بين قرّاء العالم ذلك التصنيف الغريب حتى الدهشة للحيوانات الذي قال إنّه قرأه في إحدى الموسوعات الصينية. المفكّر الفرنسي ميشال فوكو، الذي اقتبسه في مطلع كتابه عن تاريخ الجنون رجّح أن يكون هذا التصنيف مؤلّفا في مخيّلة بورخيس. قراءته للموسوعات ألهمته ما يظهر في تلك الحادثة التي ذكرها مانغويل في سيرته. فذات مرّة جاء كاتب ليقرأ على بورخيس قصة كتبها. في أحد مقاطعها يعدّد الكاتب المغمور أنواع السلاح التي أمر مفتّش شرطة المحلّة تسليمها إليه: “خنجر، مسدّسان، هراوة جلدية واحدة…” فأكملها بورخيس بصوته مفرط الرتابة: “… ثلاث بنادق، بازوكا واحدة، مدفع روسي صغير، خمسة سيوف معقوفة، منجلان، بارودة فلّين لئيمة…” افتعل الكاتب ضحكة صغيرة، لكن بورخيس أكمل بلا كلل: “ثلاثة مقاليع، كسرة آجرّ، قوس قاذف واحد، خمس فؤوس، كبش مناطحة واحد..”. أما ثيمة الملحمة “فتوق إنساني جوهري، كما الحبّ أو السعادة، أو الجائحة”.
القارىء الأشهر في العالم لم يجد نفسه مرغما على قراءة كتاب حتى الصفحة الأخيرة. وهو، على الرغم من انتقاده، بل وهزئه، من أعمال كتاب كبار لم يجد نفسه مترفّعا عما يوصم عادة بأنه مصدر ثقافة القراء الأقل إهتماما ومعرفة بالكتب. لم يكن يزدري الدراما، “فقد كان يحبّ مشاهدة أفلام الغرب الأميركي ورجال العصابات”. ويروي مانغويل كيف أنه ذهب لمشاهدة فيلم West Side Story برفقة بورخيس الذي كان سبق له أن شاهده مرّات. وكما في شخصيّة الشيخ حسني الرائعة في رواية ابراهيم أصلان “مالك الحزين”، جعل بورخيس يتصرّف في صالة السينما كأن عينيه المنطفئتين تريان المشاهد أمامهما على الشاشة، بل ويروح يصفها لمانغويل الجالس إلى جانبه.
كان ينفعل إزاء كلمة قالها ممثّل، أو إزاء بيت من الشعر، أو حتى عبارة مثل “وطني الأرجنتين” حين تقال في سياق عاطفي. وكان، أيضا عاشقا للمنامات، تلك التي يذهب إلى نومه لملاقاتها. “يطيب لي أن أقرأ قصّة هي بجودة الحلم”، قال. بل ربما كان الكابوسان اللذان سكناه، المرايا والمتاهة، هما من عوالم الحلم ومما ينشأ في جواره.
كما يروي مانغويل تدوينه للمقاطع الشعريّة، بل للقصائد، التي كان بورخيس قد أنجز “كتابتها” مبقيا إياها محفوظة في ذهنه، “جاهزة لأن تُملى على من يقع في متناول يده”. وإذ ينتهي مدوّنها من عمله يقدّم ورقتها للمؤلّف الذي يطويها “كما النقود، طولانيّا، ويضعها في أحد المجلّدات” من دون أن يفلح دائما في الإهتداء إليه.
الكاتب الذي لم يهمل أبدا تعلّقه بالمفارقة الساخرة حتى أمام الأطفال (قال مخاطبا طفلا: إذا كنت حسن السلوك سأسمح لك أن تحلم بالدّب) ظلّ في الوقت نفسه مرهفا حيال ما كان عليه أن يتركه هناك في طفولته. ربما كان ذلك جانبا مما كشفه مانغويل عن الكاتب الذي أبقته الكتابات التي تناولته في الصورة الشائعة التي نعرفها عنه. على أيّ حال، لم تكن تلك الرفقة من حسن طالع مانغويل فقط، بل كانت من حسن طالع بورخيس أيضا، إذ من الصعب أن تحتوي سيرة على هذا القدر من الصغر تلك العوالم المذهلة لـ”بطلها”.
*”مع بورخيس” لألبرتو مانغويل نقله إلى العربيةأحمد م. أحمد، صدر عن دار الساقي في 94 صفحة، 2015.
المدن