نظام الشبيحة فضح نظام الممانعة
غسان الإمام
كان الشاعر الفلسطيني الكبير عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) صديقا لأبي، وأستاذا لي هو وغيره من الأساتذة الفلسطينيين، في المرحلة الثانوية. وكان الدكتور موسى الخوري مدرسا لي في قسم اللغة الإنجليزية الذي أسسه في كلية الآداب بجامعة دمشق.
لجأ إلى سوريا، في أربعينات النكبة، مائة ألف فلسطيني. وهو رقم كبير، في وقت لم يتجاوز عدد السوريين ثلاثة ملايين نسمة. وقد تداخلت الحياة السياسية والاجتماعية للسوريين والفلسطينيين، حتى قبل النكبة بعشرات السنين. وفي دائرة أسرتي، كمثال، أكثر من زواج واحد.
في سوريا اليوم 600 ألف فلسطيني (وسطي معدل الولادة خمسة أطفال لكل امرأة فلسطينية). لكن ليست هناك حساسية التعايش المشترك التي تطبع حياة أكثر من مليوني فلسطيني في الأردن، حيث يتمتعون بحقوق متساوية في المواطنة مع أشقائهم الأردنيين. وهي الحقوق ذاتها التي يتمتع بها فلسطينيو سوريا، باستثناء حق الانتخاب والتجنيس، حرصا على انتمائهم للأرض السليبة.
في الجغرافيا، كنا ندرس مادة «سوريا الطبيعية» أي ولاية الشام التي كانت تضم، منذ العصر الأموي إلى العصر التركي، سوريا الحالية. لبنان. فلسطين. الأردن. من هنا، كان الاعتقاد الراسخ لدى السوريين، بأن النضال من أجل فلسطين واجب قومي ووطني.
ومن هنا أيضا، كان هناك سوريون في قيادة الثورات الفلسطينية. استشهد سعيد العاص (من حماه) وعز الدين القسام (من الساحل السوري)، وهما يقودان مع البطل الفلسطيني عبد القادر الحسيني أكبر تلك الثورات (1936)، تحت وطأة حصار ثلاثة آلاف جندي بريطاني لهما. ودفنا في أرض فلسطين.
غير أن افتراقا حدث بعد هزيمة النكسة (1967). فقد حصل ياسر عرفات على اعتراف عربي (1974) بأن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي الوحيد للفلسطينيين. في الرؤية السورية، كانت هذه الاستقلالية الذاتية مخالفة لمنطق التاريخ. فلسطين في الحقب الصليبية وغيرها لم يحررها الفلسطينيون، إنما حررتها وحدة مصر وسوريا في عهد صلاح الدين الأيوبي وغيره.
استقلالية القضية الفلسطينية، في المنطق القومي، وفي المفهوم السوري، هي التي أغرت السادات بعقد صلح الكامب الذي فصل بين القضيتين المصرية والفلسطينية. وهي التي جعلت الأسد وصدام ينشئان تنظيمات فلسطينية محسوبة على سوريا والعراق. وكانت آخر نصيحة للسياسي السوري المعتزل أكرم الحوراني هي تلك التي أزجاها لعرفات (1968) بعدم فصل القضية الفلسطينية عن القضية السورية.
استقلالية عرفات (الممثل الشرعي) جعلته ينهج سياسة عملية. لكن عدم استشارة العرب مسبقا في خطواته، خوفا من مزايدتهم عليه، أوقعه في أخطاء استراتيجية: الاعتراف المبكر بإسرائيل في الثمانينات، من دون اعتراف إسرائيلي مقابل. الخروج على الإجماع العربي في مؤتمر مدريد التفاوضي (1991). وعقده اتفاقا منفردا مع إسرائيل في أوسلو. ثم معاهدة صلح أبقت على الاحتلال العسكري. كل ذلك أدخله في متاهة مفاوضات عقيمة، انتهت بانطفائه جسديا وسياسيا في حصار رام الله. وموته (2004).
الاتفاق تسبب في اختلاف بين الأسد رجل الدولة. وعرفات رجل الفوضى. غير أن الخلاف كان في الواقع حول أسلوب وتكتيك إدارة الصراع العربي / الإسرائيلي، ثم في العلاقة مع أميركا. وضع عرفات والسادات بيضهما في السلة الأميركية، معتبرين أن أميركا هي الخصم. وهي الحكم.
لم يكن الأسد يفترق كثيرا عن هذه الرؤية. في مفاصل السياسة الاستراتيجية، كان الأسد أميركيا. في التفاصيل، كان الأسد مناكفا لأميركا، رغبة في كسب مصداقية لنظامه لدى شارع عربي مشبع بثقافة العداء لأميركا (الإسرائيلية). ها هو الأسد يدخل لبنان (1976) بضوء أخضر أميركي، خلافا لرأي موسكو. وها هو يشارك بقوات سورية في إخراج صدام من الكويت (1990). وفي مؤتمر مدريد العربي / الإسرائيلي، تحت المظلة الأميركية.
تركز الصراع السوري – الفلسطيني في لبنان، خلال الحرب الأهلية. لإدامة الهيمنة العرفاتية على لبنان، ومواصلة الحرب بتمويل ليبي، خسر عرفات حليفه اليساري اللبناني كمال جنبلاط. وخسر الأسد حليفه الشيعي موسى الصدر المعارض للحرب.
بعد الفشل السياسي للغزو الإسرائيلي للبنان (1982)، سلمت أميركا بدور الأسد كشرطي هناك، بعد حرب استنزاف قادها مع الشيعة والدروز ضد القوات الأميركية والإسرائيلية، فرض الأسد على الرئيس أمين جميل بلع مشروع اتفاق الصلح مع إسرائيل. ونفى العماد عون إلى فرنسا.
كان الأسد في غاية الذكاء والمناورة في قبوله اتفاق الطائف، من دون أن ينفذ مضمونه بالانسحاب العسكري من لبنان.
بعد إخراج أميركا وإسرائيل لعرفات من لبنان، عاد محاولا التقرب من الأسد في دمشق. كان الرفض مطلقا. أنقذ رفعت الأسد (المختلف مع شقيقه) حياة عرفات، بإخراجه من دمشق حيا. فطارده حافظ في لبنان من مخيم إلى مخيم. اغتيل سعد صايل (أبو الوليد) أفضل ضابط فلسطيني. قادت منظمة «أمل» بقيادة نبيه بري دبابات تي 55 السورية على المخيمات الفلسطينية. فقتل 2500 فلسطيني ولبناني في الثمانينات.
لم يكن الابن على مهارة الأب في إدارة الصراعات، وعقد وفك التحالفات. تعرضت العلاقة الفلسطينية إلى خلل أكبر خصوصا، وعلاقة سوريا العربية عموما. حافظ بشار على سياسة الأب في احتضان منظمات الرفض والممانعة الفلسطينية، كورقة تفاوضية قوية في التفاوض مع أميركا وإسرائيل، لكن بتمويل وتعاون أكبر مع إيران، بحيث مكنها من اختراق المشرق العربي، وحماس في دمشق وغزة، فجعلت الحياة صعبة على العرب وعلى النظام الفلسطيني في رام الله.
وهكذا، لأول مرة يدخل النظام العلوي في مواجهة حقيقية مع أميركا وأوروبا، كان الأب يتفاداها بحنكة، حرصا على استمرار واستقرار نظامه القائم على قاعدة شعبية وطائفية ضيقة. الآن بدا واضحا أن الغرب يميل إلى ترحيل هذا النظام، بعدما فقد قدرته على إبقاء سوريا والمنطقة في حالة من الاستقرار، تمكن إسرائيل من البقاء في الجولان.
لم أعرف شعارا سياسيا أردأ من معادلة (الممانعة والاعتدال) التي نحتتها آلة الدعاية السورية / الإيرانية. كانت الانتفاضة السورية محكا. اختبارا. امتحانا لنظام الشبيحة. هجومه على مخيم الرمل في اللاذقية عرى نظام «الممانعة». وكشف بشار. ونجاد وحسن حزب الله، أمام الفلسطينيين.
الهجوم على المخيم الفلسطيني، أسقط قناع «الممانعة» الذي خدع العرب والفلسطينيين، بالتظاهر باحتضان المقاومة الفلسطينية، وكشف انحياز حزب الله وإيران ضد انتفاضة ملايين السوريين، بدعوتهم إلى الصبر على المجازر، ريثما يتفرغ نظام الشبيحة لتحقيق الإصلاح الموهوم!
ثم يأتي الهجوم الفلسطيني المنطلق من إمارة حماس في غزة على منتجع إيلات، لينقذ حكومة نتنياهو من الانتفاضة الإسرائيلية الداخلية ضدها، ولإحراج القيادة العسكرية المصرية التي تتأهب لإصدار وثيقة مدنية الدولة المصرية التي يعارضها الإخوان.
ثم أخيرا لإحراج سلطة محمود عباس الذي سوف يحمل بعد أيام طموح الفلسطينيين إلى إعلان دولتهم، عبر الأمم المتحدة. إنها الممانعة الإيرانية / السورية التي تحرص على استخدام العنف مرة أخرى، لتقدم الفلسطينيين إلى العالم، وكأنهم غير مؤهلين وغير جديرين بدولة مستقلة.
الشرق الأوسط