نقاط من السردية السورية/ أحمد جابر
بين حينٍ وآخر، تكون العودة إلى سيرة السردية السورية ضرورية، والعودة لا تكون تكراراً، بل هي عملية فحص للقراءات والخلاصات التي واكبت الحدث السوري في زمان تقلباته، وهي عملية نقد ذاتي وعام، على كل الذين تعاطوا مع الوضع السوري واجب تقديمه.
العودة انتقائية بالضرورة، والانتقاء في منزلة اختيار الفعل الذي ما زال مستمراً في الوضع السوري بتفاعلاته وتأثيراته، أي الفعل الذي ما زال يتحكم بتطورات كل ما نشأ في سورية من تقلبات ميدانية وما رافق ذلك من تدخلات سياسية خارجية، هذا لأن هذا الفعل المتدخل في البنية السورية وفي محيطها العربي والإقليمي، ما زال يمسك بالقلم السياسي الذي يعود إليه وحده وضع نقطة ختام المأساة السورية.
الفعل الأول في سورية أميركي، أي أن سياسة الولايات المتحدة الأميركية تحتل الموقع المتقدم في إدارة المعركة السورية، وهي تمسك بخيوط التدخل من جانب الأطراف الخارجية الأخرى، وهي التي ترسم بحسم، حدود التدخل، مثلما تتدخل في تحديد مقادير الجنى السياسي المسموح لكل طرف من الأطراف الإقليمية والدولية. هذا يستوجب مراجعة لكل الكلام الذي قيل عن الانسحاب الأميركي من شؤون سورية وسواها، ويستوجب إظهار تعجب «ساخر» من القراءات التي قالت بهزيمة الولايات المتحدة الأميركية، ويتطلب وضع علامات تعجب كثيرة على آخر سطور التفاؤل الذي أبداه القائلون بقوة التدخل الروسي الحاسمة.
الانتقال إلى الفعل الروسي، الذي يأتي في المرتبة الدولية الثانية بعد الفعل الأميركي، يفرض على أصحاب القراءة الاسترجاعية إعادة وضع وزن التدخل الروسي في الميزان الذي كان في الأصل له. من الواضح، بل من الذي يجب أن يكون مفهوماً، والذي يجب أن يظل معلوماً ومعروفاً، هو أن الإيغال الروسي في الوضع السوري، وتطور أدائه، ما كان مسموحاً له أن يبلغ ما بلغه، من دون مضمرات سياسية أميركية، تنطوي على الإيحاء للعامل الروسي أن توسيع دوره متاح، وتتضمن هدف إغراق السابح الروسي في مستنقع السياسة الضحل، عندما يهيئ له أنه يخوض في غمار مياه المحيط الصافية. لقد ترك السياسي الأميركي للسياسي الروسي مهمة «تجميع صناعاته»، لأن اليد العاملة أرخص، ولأن الكلفة الأخلاقية والمعنوية أعلى، وهذا مما أتاح لصانع السياسة الأميركية، أن يبقى في موقع «النصير المطلوب»، في مواجهة «المعتدي» الروسي المرفوض، وأتاح لذات الصانع، أن يبقى صاحب «محل الصرافة» الذي سيعود إليه المعنيون المتدخلون بما جمعوا من عملات سياسية، فيكون له، أي للأميركي وحده، حق وقدرة تحديد سعر الصرف المطلوب، أو حتى إعلانه بطلان العملة واستبدالها!
الفعل الإيراني هو قريب الفعل الروسي لجهة طبيعته، أي لجهة اليد العاملة على الأرض، في موازاة اليد العاملة الروسية من الجو، والقريبان يتشابهان في الطموحات السياسية المتجددة، فالطرفان الروسي والإيراني، يسعيان، وكلٌّ لأسبابه ومنطلقاته، إلى انتزاع اعترافٍ دولي يكرس الموقع المتقدم لكلٍ منهما، على الخارطة الدولية والإقليمية. لكن التشابه يضع الطرفين المذكورين في منزلة العدوان ذاتها، فعلى المستوى الرائج سياسياً، والمنظور عملياً، تحفظ المرتبة العدوانية الأولى للدور الإيراني ولحلفائه، ويعطى الدول المؤازر الروسي المرتبة الثانية. عوامل التصنيف تجد تبريراتها في «المفكرة المذهبية»، والعوامل ذاتها تتبدل وفق تطورات الميدان، فيكون الدور الروسي أولاً في المرتبة العدوانية حيناً، ويكون ثانياً في هذه المرتبة أحياناً أخرى، ودائماً وفق حسابات «الحقل» التي لا تتطابق دائماً مع حسابات «البيدر».
الفعل العربي الذي يكاد لا يُرى في الوضع السوري، هو فعل مستتبع وموزع، وعلى توزعه ضاع العامل العربي الذي كان يمكن أن يشكِّل عنصر توازنٍ في مصلحة وحدة سورية، وفي مصلحة عروبتها، وفي مصلحة تحصين ما تبقى من مصالح عربية، من خلال منع جعل الميدان السوري منصة إطلاق على مجمل الأوضاع العربية. بين نظامٍ سوري ومعارضات من صنفه، ضاعت سورية الجغرافيا، وتكاد تضيع سورية التاريخ. بين ديموقراطيةٍ كاذبة يتصدرها الطرف الأميركي، ونصرة كاذبة يتصدرها الطرف الروسي، وبين ثورياتٍ زائفة يتصدرها الطرف الإيراني وبقايا النص القومي الخائبة، بين كل هذا وذاك لا يغيب أمران: الأول، أن الحرص على سورية سيظل هاجساً لدى كل عروبة ديموقراطية تقدمية تنويرية ومستنيرة، والثاني، أن التدخل الدولي والإقليمي، سيظل معادياً لكل محاولات التأسيس لهذه العروبة، وسيتصدى لمسيرة إحيائها، هكذا كان الأمر في الماضي، وليس لدى من يقرأ التاريخ والحاضر أن يقول: لقد كان ذلك ماضياً استعمارياً ومضى… الأرجح ما زلنا هدفاً لأشكال جديدة من الاستغلال ومن الاستعمار.
* كاتب لبناني
الحياة