أُوجِين يُونِيسْكُو… هل تنصّل حقّاً من انتمَائِه لِمَسرْح اللاَّمَعْقول؟/ محمّد محمّد الخطّابي
غرناطة ـ «القدس العربي»: مع قرب حلول الذكرى الثانية والعشرين لرحيل الكاتب الرّوماني الأصل أوجين يونيسكو، المولود في 26 تشرين الثاني/نوفمبر 1909 في رومانيا، والمتوفىَّ في 28 من الشّهر الجاري آذار/مارس من عام 1994 في باريس.
طفقت بعض الأوساط الثقافية والأدبية في بلده الأصلي رومانيا، وكذا في كلّ من فرنسا واسبانيا، على وجه الخصوص، الحديث عن بعض الانشغالات الأدبية والإبداعية التي كانت تدور بخلد هذا الكاتب الغريب الأطوار، وتراود فكرَه الذي حقّق نجاحاتٍ وأمجاداً أدبية مهمّة، إلى جانب ثلّة من كبار المفكرين، والأدباء والفلاسفة الذين قيّض له القدر أن يعايشهم أواسط القرن الفارط في فرنسا، بلد إقامته واستقراره، وتذكّرنا بعض الكتابات التي تُنشر بين الفينة والأخرى ببعض مواقف وأفكار وآراء هذا الكاتب، الذي كان قد أوَّلَ، أو تقوّلَ عليه بعضُ الكتّاب من المشتغلين بالنقد والأدب حول جوانب من إبداعاته في كتاباته على وجه التحديد، في ما يُسمّى بمسرح العبث أو اللامعقول، ولتفنيد هذه التفسيرات الخاطئة، أو دحض هذه المزاعم الواهية كان أوجين يونسكو يرى أن بحثه المتواصل عن الجانب الرّوحي في الإنسان، وعن المطلق في إبداعاته المسرحية، قد بدأ لديه منذ زمنٍ طويل، أيّ منذ طفولته، وأنّ مسرحَه ليس- كما يدّعي بعض النقاد- أنّه كان مسرحاً عبَثيّاً عارياً من أيّ معنى».
خطأ مَشهور خيرٌ من صَوابٍ مَهجور
كما كان أوجين يونيسكو يؤكّد أنّ ما أطلِق عليه «مسرح اللامعقول» هو في الواقع من اختراع الناقد الإنكليزي مارتن أسلاين، الذي استعمل بعض أنواع التعابير اللّصيقة بهذا الصّنف من المسرح، الذي كان قد دأب على كتابته في الخمسينيات من القرن المنصرم. وهو يقول في هذا الصدد: «هذا الكاتب تأثّر بكتّاب آخرين من أمثال: صاحب «الغريب» ألبير كامو، وصاحب «قدَر الإنسان» أندريه مارلو، وصاحب «الوجود والعدَم» جان بول سارتر، الذين كانوا يكثرون في هذا الوقت من الحديث عن اللامعقول، أو ما أصبح يُعرف إبّانئذٍ بمسرح العبث «. ويضيف: «فلكيْ أكتب عن اللامعقول ينبغي في المقام الأوّل أن أعرف ما لا أعرفه، بل إنني على العكس من ذلك، دائم البحث والتنقيب – بروح المغامرة- عن مفهومٍ أو معنىً جديدين للإنسان والحياة». ويؤكد أونيسكو أنه على العكس من ذلك يرفض قطعياً اسمَ أو مصطلح «مسرح اللامعقول» لأنّ مسرحه كان دائماً يرمي إلى قول شيء، وأنّ الناس هم الذين لم يقرأوه، أو لم يفهموه، فكتاب أسلاين انتشر في العالم كلّه، وأصبح الجميع يردّد تعبيرَه أو اصطلاحَه هذا. وهكذا دخل يونيسكو ـ كما يقول – التاريخ – الأدبي بصفةٍ، أو بصبغةٍ، أو بنعتٍ، أو بمصطلحٍ ألحق به جزافاً بواسطة هذا الكاتب المَعيب. وقد أصبح هذا الوصف معروفاً ومألوفاً وشائعاً ومنتشراً بشكل واسع جداً، حتى دخل الموسوعات الأدبية في مختلف لغات الأرض واستقرّ فيها، وهذا شيء مزعج. إنه خطأ أساسي واضح، إلاّ أنّ بعض الأخطاء، تتوجّه في الغالب من التبسيط نحو التعقيد، أو من التخصيص إلى التعميم، أو من التوضيح إلى التعتيم، وهذا ما حدث معه، ومع هذا المصطلح. وقديماً قال فقهاؤنا اللغويّون: «مصطلح، أو بالأحرى خطأ مشهور خير من صوابٍ مهجور.
أوجين يونيسكو ومسرح العبث
يجدر بنا التساؤل إذن والحالة هذه.. هذا الكاتب الذي اقترن اسمُه بمسرح اللامعقول، أو مسرح العبث، إلى جانب أرثور آداموف وجان بول سارتر وصمويل بيكيت وجان جينيه وسواهم .. هل كان حقّاً من أقطاب مسرح العبث أو مسرح اللامعقول؟ أم أنّه نفى ذلك عن نفسه، وتنصّل من هذا النعت الذي ألحق به؟ إنه يخبرنا أنه فحص في أدبه على امتداد حياته مسألة الإنسان والحياة، والوجود والعدم، وسعيه الدائم في التوجّه إلى خالقه، إنه لم ينس الجانب الرّوحي في الإنسان وأهمّيته لديه، باعتباره قوّة وطاقة أساسيتين لا يمكنه الاستغناء عنهما أبداً. هذه هي حقيقة هذا المبدع المناوش الذي كان قد خرج عن صمته قبيل رحيله، وأعلن أمام الملأ أنّ ساعة نهاية الشيوعية قد أزفت، ودقّت في مختلف أنحاء العالم.
الإنسان والفراغ
أوجين يونيسكو عندما سأله الكاتب المكسيكي ستيفانو ماريا عن مسرحه، ومسرح صمويل بيكيت، في مسرحيته الشّهيرة «في إنتظار غودو» حيث يبدو له أنّ هذا النوع من المسرح هو مسرح غيب وغياب، والتوجّه الدائم نحو الخالق، ومحاولة إيجاد الأجوية للأسئلة الدائمة التي تترى عن المغزى أو المفهوم اللذين يُعطيان للعالم ولوجودنا، أجاب: «أجل لم يفهم الناس أنّ موضوع مسرحنا في الأساس هو هذا بعينه، وهو التعرّف الدائم على قدرة الخالق، ومعظم أعمال صمويل بيكيت تسير في العمق، وفي الواقع في هذا التوجّه. إلاّ أنّ مخرج مسرحية بيكيت روجي بلين، كان قد خلط الأدوار، وخدع المُشاهدين، إذ كان من الصّعب في ذلك الوقت الحديث بصراحة عن مواضيع كهذه. ويضيف يونيسكو: «أنّ مسرح بيكيت، ومسرحه مسرح ميتافيزيقي وليس مسرحاً سياسياً، أو اجتماعياً كما قيل، فهما يبحثان- في العمق- في ظرف وجود الإنسان. وهما بالتالي ضحايا خطأ فظيع، وقال إنه عندما كانت مسرحيته «الكراسي» تُعرض في بولونيا، تحولّ الممثلان اللذان قاما بدور البطولة فيها إلى عاملين فقيرين نكرتين..!
ويضيف يونيسكو في هذا القبيل: «إنه لم يشأ قول ما أسيء فهمه، وإنما توخّى القول على وجه التحديد، إن هذين الشخصين لم يكن كلٌّ منهما قد أخطأ طريقه إلى الله، وإنّما كأيّ إنسان سويّ كانا في حقيقة الأمر يبحثان عن طريقهما إلى باريهما. إلاّ أنّ أحداً لم يشر إلى هذه الحقيقة، بل صار الجميع يفسّرون، ويؤوّلون على هواهم. لقد كتبت أعمال نقدية غبية غارقة في الوحل في هذا الاتجاه الخاطئ، والواقع أنّ مسرحية «الكراسي» عمل أدبي وإبداعي يبحث عن مغزى العدم، أو معنى الفراغ أو اللاّشيء لدى الإنسان، أو بمعنىً آخر هو ضربٌ من البحث عن الحقيقة.
يونيسكو وبريخت
وحول ما يُسمّى بالمسرح السياسي لدى هذا النّوع من الكتّاب، الذي اعتبر بريخت أحد روّاده الكبار قال أوجين يونيسكو: «إن المسرح السياسي كان من ألدّ أعدائه، وإنّ الإساءات التي سبّبها له هذا المسرح قد عانى منها الكثير. لأنّ هذا النّوع من المسرح يفترق، أو يبعد، أو ينأى عن الميتافيزيقا، ولا يعبّر عن المشاكل الأساسية، أو المشاغل الحقيقيّة للإنسان، إنه شكل من أشكال «التسلية» لا يصلح سوى للضحك والتسرية، وهو يعتبر نشاطاً إبداعيا ثانوياً، فالحياة لها طابع تراجيدي خاص ومؤلم، ومسرحه لا يبعد عن الغمّ والأسى اللذين يشعر بهما الإنسان، أو يغشيانه حيال هذه المأساة، بل إنه يقرّبهما منّا حتى نستطيع تجاوزهما، إنه مسرح دائم الحيرة والقلق والتساؤل عن المعنى الحقيقي للحياة، من غير أيّ إنحراف. فالتساؤل – بشكل مّا – هو نوع من الجواب». وأضاف: «إنّ المسرح السياسي حاول أن يجعله أحدَ أقطابه أو أفراده، لقد كانت له محاورات، ونقاشات مع ناقد معروف وهو كينيث تينان، الذي كان يقول له: لو أردتَ، فأنتَ بمقدورك أن تصبح أكبرَ كاتب معاصر، ذلك أنّ نوعية كتاباتك يمكن أن تصل إلى مستوى سترندبرغ» وأضاف مستطرداً: إلاّ أنّه عليك أن تكون كاتباً بريختياً فتصبح أكبر كاتب في العالم، فقال له يونيسكو على الفور مداعباً: «هذا غير صحيح، فالصّواب القول قد أصْبِحُ ثاني كاتب في العالم فهناك دائماً بريخت».
يونيسكو وسارتر
ويضيف أوجين يونيسكو في هذا السّياق: «كانوا يقولون لنا : كونوا ملتزمين، ولكن «ملتزمين» كان يعنى سجّلوا أنفسَكم في الحزب الشيوعي». وكان هذا الكاتب الرّوماني قاسياً مع صاحب سيمون دي بوفوار الكاتب والفيلسوف الوجودي جان بول سارتر، حيث قال عنه في إحدى المناسبات: «سارتر كان مثالاّ حيّاً لذلك النّوع من المثقفين المتملقين الذين أمقتهم.. «سارتر ضمير العالم» حسن، هذا ما كان مكتوباً على غلاف أحد كتبه، إلاّ أنّ الواقع سارتر كان قد مثّل «لا ضمير العالم» وبالتالي لم يكن ضميره، كان ممّن لم يفهموا أيَّ شيء، كان يلهث خلف جميع أشكال الشّعارات «ليضعَ نفسَه دائماً في اتّجاه التاريخ أو في سياقه، ففي عام 1968 كان يشجّع الشبّان على إضرام نيران الفتن، وإثارة الشغب وكان يجري وراءهم، ولم يقم بفعل أيّ شيء آخر غير هذا طوال حياته. كان انعكاساً أو صدىً لكلّ ما هو غبيّ، كان أشهر مثقّف ماركسي، ولكن عندما قلّل الفلاسفة الجدد من شأن الماركسية ، ولكي لا يفوته قطار التاريخ، قال: «ولكنّني منذ سنتين قلتُ إنّني لم أعد ماركسيا».
الأمجاد الأدبيّة وهميّة
وكان أوجين يونيسكو يقول عن آخر كتبه وهو «البحث الذي لا ينتهي»: «إنّه الحكاية مرويّة بطرق متعدّدة وبشكلٍ جديد، لقد كنتُ منقسماً بين أمنيتين اثنتين، البحث عن المجد الأدبي وهو مجد زائف ومؤقّت، والبحث عن المطلق. لقد انسابت حياتي بين هذين القطبين، إنّ بعض الأمجاد الأدبية الغبيّة التي تحتلّ حيّزاً مهمّاً من حياة الإنسان، كما تشغل بالَ الكتّاب إنّما هي انشغالات يلهي بها الإنسانُ نفسَه، مثلما هو الشأن مع بعض الحروب. أمّا الأسى، والعنف والمرارة والقساوة، التي تطبع هذه الحروب، فإنما هي وسائل تنسينا جوهرَ الموضوع، أو تلهينا وتقصينا عن القضايا الجوهريّة في انشغالاتنا الأساسيّة».
وعلى ثبج شطحات فكره، وعلى صهوة سديم فضاءات خياله قال يوجين يونيسكو في حميميّة مُذهلة، وخصوصية مُبهرة عن نفسه ذات يوم: «لقد اعتُبِرتُ ذات مرّة أنني من مثقفي اليسار، واعتُبِرت في مرّاتٍ أخرى أنّني من مثقّفي اليمين، والواقع أنّني مفكّر وحيد. وذلك يضاعف من عذابي، ويزيد من آلامي وسقامي، ويضاعف من ضنكي ومعاناتي ولكنّ عزائي الوحيد أنّ أمثال هذه المواقف في الواقع هي التي تصنع الرّجالَ الحقيقييّن».
القدس العربي