الانقراض السوري/ علا عباس
ما الذي يمكن أن تأتي به الحرب سوى الموت؟ يمكنها أن تأتي بما هو أكثر بكثير. يمكنها أن تأتي باللصوص والعاهرات، يمكنها أن تتسبب بالطلاق وبخلافات الأخوة، فهي من تأتي بالفقر واليأس، وهذان الأخيران يجلبان كل الشرور.
في تقرير للأمم المتحدة عن آثار الحرب على سورية، تبين أن نسبة الفقر هناك تجاوزت الـ 90 بالمئة، والفقر لا يميز بين لاجئ في الداخل أو لاجئ في الخارج أو مقيم. فمن بين 23 مليون سوري، وخلال أربع سنوات من الحرب، أصبح أكثر من عشرين مليوناً فقراء.
ومن بين عشرين مليون فقير، لا بد أن يظهر مليون لص ومليون امرأة مستعدة أن تفعل أي شيء كي تطعم أبناءها، ومنهم أيضاً لا بد أن يظهر عشرة آلاف قاتل مأجور وقاطع طريق، ومئات الآلاف ممن هم مستعدون للقتال تحت أي راية في مقابل ما يسد رمق الأبناء.
هذه آثار طبيعية يمكن أن تصيب أي مجتمع، إذا ما عمّه الفقر، والمجتمع السوري لن يكون استثناءً، وقد بدأت هذه الآثار في الظهور، فحوادث السرقة أصبحت امراً معتاداً، أبسطها وأسهلها قفز اللصوص الصغار عن شرفات المنازل، لسرقة ما يتوفر في البيوت الفقيرة كذلك، وأكبرها سرقة البلد ومستقبله وأرواح أبنائه، وهو ما تقوم به طائرات النظام وأجهزته الأمنية وتعنت رأسه، وتمسكه بكرسيه المتهالك، ولو كلف ذلك ما تبقى من البلاد وأهلها.
وبين هذا وذاك، تنتشر السرقات المتوسطة، فمليشيات الدفاع الوطني، وبعد أن انتهت من “تعفيش” الأحياء التي هجرها سكانها، التفتت إلى أحيائها هي بالذات، وصارت تسرق نهاراً جهاراً، من دون أن يجرؤ أحد على الاعتراض أو الشكوى، وبعد أن انتهت من خطف الأثرياء للمفاوضة على إطلاقهم مقابل فدية، صارت تخطف الأقربين وأبناء الحي والقرية.
كتائب تتغطى باسم الثورة مارست وتمارس السرقة والخطف ومختلف صنوف الإجرام. زراعة المخدرات بدأت الانتشار، وتعاطيها وتجارتها صار أمراً مألوفاً، في مجتمع ارتطم بجدار اليأس.
آبار النفط صارت محل صراع بين لصوص ولصوص أقوى منهم، آثار سورية صارت لها شبكاتها الممتدة في العالم، عصابات صغيرة تنقب وتنهب وتخرب، عصابات أقوى وأكبر تقوم بتهريب تاريخ سورية عبر الحدود، ليصل إلى مافيات دولية منظمة، تدير سوق الآثار السوري العراقي.
عشرة آلاف عام من الحضارة موزعة على ثلاثة آلاف موقع أثري، صارت بعهدة اللصوص، وما أبقاه النظام وفاسدوه بعد أربعين عاماً من السرقة والنهب، يتم الإجهاز عليه الآن، وباشتراك الجميع.
التعليم متوقف في أكثر من نصف البلاد، وأمراض القرن التاسع عشر عادت إلى الظهور في سورية. أطفال دون العاشرة يقفون بهدوء، وربما بعض الاستمتاع، وهم يشاهدون مسلحي داعش يقطعون بالسيف رؤوس أعدائهم، أطفال آخرون يخرجون من تحت الأنقاض برجل واحدة أو يد واحدة، أو من فوق جثث أخوتهم الأصغر، فيما طائرات النظام تغادر المكان، بعد أن “دكّت أوكار الإرهابيين”.
الأسر تفككت وتشتتت، وصار كل واحد منها في بلد، وكم من أسرة لا تعرف أين مستقر أبنائها، عدا مئات آلاف الأسر، يقبع أبناؤها في أفرع الأمن والمعتقلات سيئة الصيت، ولا يعرفون إن كانوا أحياء أو أمواتا.
كم من زوجة تنتظر زوجاً ربما مات منذ ثلاث سنوات، وكم من أخرى تزوجت بعد أن عرفت بموت زوجها، وهو في الحقيقة ما زال على قيد الحياة، ملايين المآسي والقصص الإنسانية التي لا يمكن للأدب، ولا للسينما أن يتخيلها. وكلها تصب في نتيجة واحدة: هذا المجتمع في طريق التفكك.
قبل عامين، كنا نقول إن العالم يقف مكتوف الأيدي، وهو يشاهد الشعب السوري يذبح ويقتل بالقصف والرصاص والأسلحة الكيماوية، وكنا ما نزال نمتلك الأمل بأن يتحرك الضمير الإنساني، ويدفع حكومات بلاده لتفعل شيئاً يوقف الموت والخراب في سورية.
مع تفاقم المأساة الإنسانية وتوسعها وتعمقها وامتدادها لكل جوانب الحياة، صارت الحالة أكثر سوءاً بكثير، فالعالم لم يعد يقف مكتوف الأيدي، وهو يشاهد الشعب السوري يذبح، العالم توقف عن المشاهدة أصلاً، ملّ من موتنا، ضجر من خرابنا، سئم من منظر دمائنا النازفة.
أذكر جملة للشاعرالسوري الراحل إياد شاهين تعبّر تماماً عما يجري في بلادي: إنه ليس الموت، إنه الانقراض.
العربي الجديد