الثورة السورية إذ تُسقط أسطورة الثورة الفرنسية
منذر عيد الزملكاني
إن المتأمل في الثورة السورية منذ اليوم الأول وكيفية تطورها، ومستوى التحديات التي واجهتها، وكيف أنها تغلبت على كل محاولات إجهاضها، لا بد أن يعتبرها أسطورة الثورات العالمية بأجمعها، بل أسطورة العالم الحديث. فإذا كانت الثورة الفرنسية قد صنفها العلماء بأنها أهم الثورات الأربع الكبرى في العالم (الإنجليزية، الأميركية، الفرنسية، الروسية) حسب الترتيب الزمني، فإنه يكفي أن نعقد مقارنة علمية بسيطة بين الثورة السورية وبين الثورة الفرنسية لنصل إلى نتيجة مفادها أن الثورة السورية هي أعظم من كل تلك الثورات بأجمعها.
توجد حالة مشتركة إلى حد كبير بين آل الأسد في سوريا والملك الفرنسي لويس السادس عشر، وهي السيطرة على الدولة، فقد قالها يوما جده الأكبر الملك لويس الرابع عشر: «أنا الملك.. أنا الدولة»، مع الأخذ بعين الاعتبار أن قبضة آل الأسد على الدولة كانت أشد وطأة، ولم تكن أبدا لمصلحة البلاد، وإنما لمصلحة قوى إقليمية عدو للشعب السوري والتاريخ السوري والحضارة العربية.
من ناحية ثانية، لقد كانت علاقة الملك الفرنسي لويس السادس عشر بشعبه ورعيته منذ أكثر من مائتي سنة أرقى وأعظم حضارة من تعامل آل الأسد مع الشعب السوري. يقول أليكس دي توكفيل: «كان الملك يستخدم لغة السيد، لكن في الحقيقية هو كان دائما يذعن للرأي العام ويستأنس به في إدارة الشؤون اليومية، وقد جعل أهمية كبرى لاستشارتهم والخوف منهم والانحناء لهم بثبات».
ودون الخوض طويلا في أسباب الثورة الفرنسية والثورات الكبرى الأخرى، فإنه يكفي أن نورد ما قاله جيمس ديفيز بأن «الثورة الأميركية والثورة الفرنسية والثورة الروسية لم تقم بسبب استمرارية وقساوة شظف العيش عند الناس. بل كان السبب انحدارا اقتصاديا واجتماعيا حادا ومفاجئا أحبط الآمال والتوقعات التي كانت معقودة على التقدم». إذن، فالثورة كانت بسبب الانتقال من حالة جيدة إلى حالة سيئة بشكل حاد ومفاجئ، لا كما هو عليه الحال في بلادنا التي لم تشهد حالة جيدة قط منذ عقود.
يقول روبرت بالمر: «الفلاحون والبورجوازيون كانوا في حرب ضد عدو واحد، وهذا ما جعل الثورة الفرنسية ممكنة». إذن لقد تحالف البورجوازيون مع الفلاحين ضد الملك في فرنسا، فهي لم تكن ثورة من فوق ولا ثورة من تحت، بل كانت ثورة من فوق وتحت في آن واحد، اجتمعت مصالحهما جميعا للتخلص من الملك وزمرته. صموئيل هانتغتون يعمم هذه الحالة فيقول بأن «توفر هذا الشرط هو ما يجعل أي ثورة ممكنة». ويضع شروطا لكل ثورة في أي بلد عصري وهي «أولا: المدى الذي تكون فيه الطبقة الوسطى في المدينة وطبقة المفكرين والأدباء والمهنيين والبورجوازيين مهمشين ومبعدين من قبل النظام القائم. ثانيا: المدى الذي تكون فيه طبقة الفلاحين مهمشة ومستبعدة من قبل النظام القائم. ثالثا: مدى تجمع الطبقة الوسطى في المدينة والمفكرين مع طبقة الفلاحين معا، ليس من أجل القتال ضد العدو الواحد فحسب، بل أيضا من أجل قضية واحدة، وعادة ما تكون الوطن أو الأمة».
وبغض النظر عن تصنيف صموئيل هانتغتون للطبقات في قيام الثورة، إلا أنه في الحالة السورية كان الوطن في عين وقلب الثوار فقط، أما الآخرون فكانوا وراء مصالحهم في سوريا، الثورة كانت من تحت فقط، بمعنى أن طبقة الأغنياء لم تشارك في الثورة، بل على العكس اصطفت إلى وقت طويل من عمر الثورة إلى جانب النظام وقاتلت في خندقه، ولا يخلو طبعا من بعض الاستثناءات الفردية التي لا يعتد بها في تغيير النظرة العامة. وحتى هذه اللحظة لا يمكن اعتبار الطبقة البورجوازية مع الثورة، فهي ما زالت ملتزمة الحياد، ومنها ما سارع إلى الفرار من الساحة والتفرج عن بعد كالذي يشاهد مباراة بين فريقين بانتظار فوز أحدهما ويبقى الوطن آخر ما يفكرون به.
فالآية انعكست في حالة الثورة السورية، وهي أن الثوار كانوا هم العدو الأوحد بالنسبة للنظام وللبورجوازيين. وهذا أول اختلاف كبير بين الثورة السورية والثورة الفرنسية، مما يجعها أكثر تعقيدا وأشد صعوبة في مسارها. وهذا الاختلاف في الحقيقة ليس حكرا على الثورة السورية، بل تشترك فيه أغلب ثورات الربيع العربي، لكن الاختلاف الكبير الذي يميز الثورة السورية وحدها من ضمن ثورات الربيع العربي عن الثورة الفرنسية هو استخدام القوة المفرطة لقمع الثورة. يقول كرين برنتن، أحد كبار مؤرخي الثورة الفرنسية: «إن لويس السادس عشر كان لديه في عام 1789 قوات مسلحة يثق بها. كان لديه قوات حراسة ومرتزقة من الألمان والسويسريين، وكان السويسريون مستعدين للموت في سبيله ومن أجل واجبهم. كان لديه من هم الأقوياء الأمناء ممن يستطيع الاعتماد عليهم، لكنه في هذه اللحظة الحاسمة فشل هو وخصمه في استخدام العسكرة. ومنهم من يقول بأنه لم يحاول استخدامها. وهنا تأتي النقطة الهامة جدا، وهي أن الملك الفرنسي هو الذي أعرض عن استخدام القوة، لكن في الثورة السورية كانت الحالة على العكس تماما، فالنظام هو الذي لجأ إلى القوة ضد خصمه منذ اللحظة الأولى ودفع من عنده من مرتزقة إيرانيين ولبنانيين وعراقيين وروس للقتال معه أو الاستعانة بخبراتهم ضد الشعب. بل يمكن القول بأن القوة التي استخدمها النظام في سوريا قوة غير مسبوقة لم تشاهد حتى في الحروب التقليدية. والحرب ضد الشعب السوري لم تقتصر فقط على القتل والاعتقال والتهجير، بل تعداها إلى التجويع والموت بردا من قبل النظام أو من قبل حلفائه وبعض المسمين زورا وبهتانا بأصدقاء الشعب السوري.
إن مهاجمة الشعب بصواريخ «سكود» أمر لا يمكن إلا أن يقف المرء عنده متأملا ليس الوحشية بذاتها، بل متأملا انعدام الحدود في الوحشية، وكيف أن الوحشية المستخدمة من قبل النظام مرتبطة بشبكة مصالح دولية وإقليمية هدفها الأول والأخير هو ضرب سوريا بالسوريين، والخروج ببلد ليس فقط يعاني بنيويا واقتصاديا، بل يعاني اجتماعيا أكثر من خلال الفتك بأهله والتسبب بإعاقات جسدية دائمة لا تقوى على البناء، لأن قوة البلد بأبنائها أولا وأخيرا.
علاوة على ذلك، فإن البينة الطائفية والعرقية المتنافرة المصالح في سوريا وفي دول الجوار أيضا، وضعت الثورة السورية في حالة شد وشد مضاد، مما شكل عبئا كبيرا عليها لم يكن له مثيل في حالة الثورة الفرنسية.
إن استمرار الثورة السورية رغم التدخل الدولي فيها لصالح النظام السوري سرا وعلانية، يعتبر أيضا مميزا عن الثورة الفرنسية التي حدثت في زمن كانت الشعوب تستطيع فيه التحكم بمصائرها إلى حد بعيد. فنحن نعيش اليوم في عالم لا يمكن أن يسمح لنا بتحرير أنفسنا ولا التحكم بمصيرنا ولا رسم مستقبلنا، لأن حريتنا تعني بداية الخطر عليهم.
ويقول الدكتور برهان غليون في كتابه «الدولة ضد الأمة»: «ينبغي أن نذكر بالأثر الحاسم لمسار تدويل المصير الوطني، أو إذا شئنا تعويم الدول الصغيرة الناجم عن تطور الاستراتيجية العالمية وحرمان هذه الدول موضوعيا من أي قدرة على التحكم بمصيرها المادي أو الثقافي». وهذا العامل يقودنا إلى عامل آخر، وهو عواقب الثورة السورية وتداعياتها الإقليمية والدولية انطلاقا من اعتقاد جون ضن بأن «الثورة هي ليست فقط إسقاط النظام». فكما أن الثورة الفرنسية أحدثت تغييرا عالميا كبيرا، فالثورة السورية بعد أن بدأت مطالبة بالحرية والكرامة تحولت لتطالب بإسقاط النظام، لكنها اليوم تحمل في طياتها إسقاطا لمشاريع إقليمية ودولية خطيرة جدا، ليس آخرها تهديد مكتسبات الحلف الأميركي – الإيراني في المنطقة.
الشرق الاوسط