الحلّ السياسي أو العسكري في سورية… مساهمة في النقاش
ماجد كيالي *
من حقّ أي من السوريين أن يقول بمعارضته لأي حلّ سياسي في سورية، إن من باب الحقّ في حرية الرأي والتعبير، أو كردّ فعل إنساني وطبيعي على الظلم والوجع والتهميش الذي أحاق بهم، طوال أربعة عقود، ولا سيما الكارثة التي أنزلها بهم النظام خلال العامين الماضيين، إذ تعامل مع ثورتهم المشروعة، ومع مطلبهم بالحرية والكرامة بشراسة تزيد حتى عن تعامل جيوش الأنظمة الاستعمارية مع الشعوب المستعمَرة.
لكن إذا كان ذلك حقاً مشروعاً، ومفهوماً، بالنسبة إلى السوري العادي، الذي يدفع الأثمان الباهظة لما يجري، ففي المقابل ليس من حقّ أي مسؤول في المعارضة السياسية أو المسلّحة، أن يقول ذلك لمجرّد الكلام، من دون أن يبيّن مغزاه، ومن دون أن يشرح للسوريين ماذا يعني به، أو على ماذا يراهن، أو كيف سينهي النظام، وبأية إمكانيات وقوى؟
ومعنى ذلك أن القيادات معنية بالتصرّف بمسؤولية وحكمة، في أي ظرف، بمعزل عن العواطف والرغبات، ووفق معادلات سياسية، تتعلق بموازين القوى، وحالة المجتمع، والمعطيات والمداخلات العربية والدولية، وحسابات الكلفة والمردود، بعيداً عن التوهّمات أو المراهنات غير المدروسة. وبكلام آخر، فإن القيادات، السياسية والعسكرية، تتحمل مسؤولية تخفيف الأكلاف، وتقصير الطرق، ومواءمة الإمكانات مع الطموحات، ما يقتضي عقد مساومات معينة، قد لا ترضي الجميع، ولا تحقق المتوخّى مرة واحدة، ولكنها تفضي إليه، بطريقة أو بأخرى، ولو بعد حين.
وربما لا بد من التوضيح هنا أن هذه التساؤلات لا علاقة لها بالنزوع إلى تفضيل الحلول السياسية لا سيما لصراع دام ومهول كالذي يعايشه السوريون، منذ أكثر من عامين، وإنما هي مجرّد محاولة للتفكير بصوت عال، وبكلام صريح ومباشر، بشأن مستقبل سورية أولاً، وبمصائر السوريين ثانياً، وأحوال الثورة السورية، ثالثاً.
وفي الحقيقة فإن أسئلة من هذا النوع ينبغي أن تطرح للنقاش العلني، ليس فقط من أجل تقرير الذهاب نحو هذا الحل السياسي أو ذاك، أو للتأكيد على وجاهة عكس ذلك، أي مواصلة الصراع المسلح، وإنما لإمعان التفكير بواقع الثورة ذاتها، وإمكاناتها، ومضامين خطاباتها، ومستوى تنظيمها لأوضاعها، وطريقة إدارتها لأحوالها، وأشكال عملها، واستراتيجيتها السياسية والعسكرية، وأيضاً، من أجل إمعان التفكير بأحوال مجتمعها، وبحدود قدرته على التحمّل والمواصلة، على هذا الطريق أو ذاك.
وبصراحة، ثمة فجوة كبيرة في كل شيء يتعلق بالثورة السورية، بين ما تطرحه خطابات بعض قيادات المعارضة، وبين الإمكانات التي تمتلكها، ثم بين تضحيات السوريين الباهظة وتخبّط المعارضة في ترتيب أوضاعها، وأيضاً بين شعاراتها العالية وتدنّي قدرتها على التحكّم بالأوضاع على الأرض، ويشمل ذلك حتى المناطق التي باتت خارج سيطرة النظام. فوق ذلك ثمة مشكلة في تعدّد المراكز والمرجعيات القيادية، لا سيما العسكرية، وفي عدم ملاءمة بعض الأنشطة العسكرية للحواضن المجتمعية، كمثل السيطرة على مناطق شعبية واسعة، وإعلانها مناطق محررّة، مع ما يجرّه ذلك عليها من مخاطر القصف الجوي والمدفعي من قبل النظام، ما يؤدّي إلى تهجير سكانها، وتدمير بيوتهم وممتلكاتهم، وهو أمر يتقصّد منه النظام تدمير البيئات الشعبية الحاضنة للثورة.
حسناً، لنستبعد الحديث الآن عن أي حلّ سياسي في سورية، لمصلحة القبول بفكرة إسقاط النظام بالوسائل العسكرية، وهو كلام صحيح من الناحية النظرية، لا سيما بعد أن ولغ هذا النظام في استباحة دم السوريين، وتدمير عمرانهم، لكن ما ينبغي إدراكه أن هذا الكلام له تبعاته أيضاً. والمعنى أن الصراع المسلح يستلزم إمكانات كبيرة في التسليح، والإمداد بالذخيرة، والدعم المالي، والغطاء الجوي، والواضح على ضوء التجربة المريرة والكارثية أن كل ذلك ليس بمتناول اليد، ومن الخطأ استمرار المراهنة عليه. وطبعاً، فهذا لا يستلزم شطب هذا الخيار من الحسبان، فما قد لا يكون اليوم، ربما يأتي غداً.
هكذا، ففي الصراعات السياسية، بخاصّة المسلحة، من الخطأ المراهنة على خيار واحد، وإنما ينبغي التكيّف مع خيارات عدة، ضمنها مثلاً، الموازنة بين الأنشطة العسكرية للثورة والإمكانات الذاتية لها، وعدم القيام بخطوات تصعيدية تفوق قدراتها، أو تستنزف طاقتها (وهذا حدث في تجربة الانتفاضة الفلسطينية الثانية وكانت له نتائج وخيمة على الفلسطينيين نجد نتائجها حالياً بوقف المقاومة نهائياً في الضفة وفي غزة). كما يأتي في هذا الإطار، إمكان التعويض عن الخلل في موازين القوى العسكرية بفتح نوافذ أخرى يأتي ضمنها إيجاد حل سياسي يمكّن من الوصول إلى الهدف، ولو بعد حين، وإن تضمن بعض النواقص، على أن لا يخل ذلك بالهدف المتعلق بإسقاط النظام.
أما إبقاء المراهنة في الخيار العسكري على إمكان تدخّل بعض الدول الكبرى في الصراع الدائر، إن على شكل رفع الحظر عن تسليح جماعات «الجيش الحر»، أو فرض مناطق آمنة، أو حظر جوي، فهذه ربما لا تكون مجدية، وقد يدفع السوريون ثمنها، إن بخوض معارك عسكرية غير محسوبة، أو مبكّرة، أو بزيادة مشاعر الإحباط عندهم. فحتى الآن لا يبدو أن ثمة تغييراً في الاستراتيجيات الدولية المتعلقة بسورية، فالجميع يتفرّج على ما يجري بانتظار تعب المتحاربين، لفرض صيغة حل وفق التجاذبات الدائرة بين الدول الفاعلة إقليمياً ودولياً، بغض النظر عن النظام، وعن الثورة السورية.
في الغضون، من المؤسف أن ثمة معارضين، وحتى بعد عامين باهظي الثمن، ما زالوا يظنّون أن الدول الكبرى تشتغل عندهم، أو أنها تؤمن بالمبادئ فقط، فكما تبيّن، فإن هذه الدول تتحدّث بحسب مبادئها، لكنها لا تتحرّك إلا بناء على مصالحها، وعلى مفهومها للأمن القومي، وإن تحرّكت فلها اشتراطات معيّنة على الثورة، ومن ضمنها توضيح السوريين لثورتهم، وتنظيمهم لأحوالهم، وملاءمة تصوراتهم للمستقبل مع مصالح تلك الدول.
على ضوء كل ذلك، وبالنظر إلى عدم قدرة أي من النظام أو الثورة على الحسم، تبدو سورية أمام خيارات معقدة وصعبة ومكلفة، فإما استمرار هذا الوضع من النزيف، الذي يعمل خراباً فيها، أي في مجتمعها وعمرانها ومواردها، أو حثّ حلّ سياسي يسمح بتحقيق مرحلة انتقالية تؤدي إلى طي صفحة «سورية الأسد إلى الأبد»، وبناء سورية جديدة، بمواصفات قد لا تكون وفق طموحات هذا الطرف أو ذاك، كما يبقى ثمة خيار نشوء حالة أو ظرف يدفع نحو التدخّل الدولي الذي يعجّل بالإطاحة بالنظام.
هكذا، فإن كل الطرق باهظة الثمن، فالخيار الأول، لا سيما مع استمرار حظر السلاح، سيطيل أمد الصراع، ويزيد كلفة الثورة، والأهم أنه مع كل التفسّخات والتشقّقات التي نشهدها في سورية، وفي واقع ثورتها، وتخبّط إطاراتها السياسية والعسكرية، لن يفضي إلى الصورة المأمولة للمستقبل. أما الخيار الثاني، وهو ليس سهلاً، ولا ناجزاً، ويحتاج إلى مزيد من الدفع والضغوط وربما الأثمان، فهو يتطلب من القوى الفاعلة في الثورة عقد مساومات، تتعلق بمواءمة تصوراتها عن سورية المستقبل مع تصورات ومصالح القوى الدولية والإقليمية الفاعلة. أي أن هذه المساومة ستفاضل بين كلفة استمرار الصراع الدامي والتدميري، وبين الثمن السياسي الذي سيجبى منها على هذا الصعيد، فسورية بلد مفتاحي في الشرق الأوسط، ولن يرضى أحد بنشوء نظام غير واضح، أو ربما يثير المشكلات والاضطرابات في هذه المنطقة الحيوية من العالم. وبالنسبة إلى خيار التدخّل العسكري، فهذا ما لا ينبغي انتظاره، ولا المراهنة عليه، ولا ينبغي أصلاً المطالبة به، لأنه يدخل سورية في المجهول، ولأنه لا يمكن أن يأتي بناء على رغبة السوريين أصلاً.
وربما ينبغي الانتباه هنا، إلى أن الثورة السورية خسرت بعضاً من رصيدها، بسبب عدم توافر قيادة سياسية ملائمة، وبالخصوص بسبب التحولات التي حصلت بها، لا سيما مع مشاهد فقدان السيطرة على الوضع، ومشاهد الجلد والذبح والسحل والتفجيرات العشوائية، وكل ذلك ينبغي الانتباه إليه، والتعامل معه بنوع من الوعي والنضج.
وفي العموم، فلقد تداخلت في سورية أمور كثيرة، ولم يعد الصراع محصوراً بين النظام والشعب، فهناك إسرائيل وإيران وتركيا، والدول العربية الفاعلة، وطموحات الجماعات الإسلامية الجهادية، وفوق كل ذلك ثمة أوروبا والصين وروسيا وأميركا.
وربما ينبغي الانتباه هنا إلى أن الثورة السورية المجيدة تتعرض لذات التعقيدات التي تعرضت لها الثورة الفرنسية (أواخر القرن 18)، حيث تكالبت عليها الدول المحيطة لإجهاضها، وتحجيم طموحاتها، وقد احتاج الفرنسيون أكثر من ثورة، وإلى مئة عام، لتحقيق أهداف ثورتهم الأولى.
قصارى القول، ففي سورية استطاع السوريون، بشجاعتهم المذهلة وتصميمهم المنقطع النظير، وتضحياتهم غير المسبوقة، إنهاء قصة «سورية الأسد إلى الأبد»، فهذا انتهى، مع قيامة ثورتهم، وكسرهم الخوف الذي عشش في قلوبهم أكثر من أربعة عقود، وبقيت التفاصيل. المهم أن الجميع ينبغي أن يدرك أن النظام سقط، من الناحية العملية، وأن ثمة صفحة جديدة في تاريخ سورية بدأت، لكن المهم في غضون ذلك أن لا يسقط النظام على رؤوس السوريين، كما كتبت ذات مرة على هذه الصفحة.
على ذلك، لا ضير في أي حل يتضمن الوصول إلى الهدف، بأقل أكلاف ممكنة، طالما أن الثورة، بقواها العسكرية، غير قادرة على تحقيق ذلك، في المدى المنظور. لكن من الطبيعي أن الأمر لا يتعلق بأي حل، إذ لا قيمة لأي حل سياسي لا يتأسس على الاستجابة لمطلب السوريين بالحرية والكرامة والمساواة والعدالة. لذا فأي حل يتأسس على حقن الدماء، ورحيل النظام، ولو بأي شكل، ويضمن تعايش السوريين على أساس التسامح والمساواة ينبغي المطالبة به، فحتى الثورات المسلحة، والحروب بين الدول، تتوخّى في الأخير التوصّل إلى حلول سياسية. وما ينبغي إدراكه، من عبر التاريخ، أنه لا توجد ثورات مرة واحدة، ولا توجد ثورات كاملة.
كاتب فلسطيني
الحياة