المثقف وأزمات الشعوب
لا شك أن المثقف العربي -كفاعل تاريخي في حقل الثقافة وإنتاج المعرفة- مسؤول بصورة مباشرة عن نهضة واقعه ومجتمعه، أي أن له دوراً محورياً ورئيسياً في عملية استنهاض المجتمعات العربية من تخلفها وارتكاسها الوجودي الشامل.. وذلك عبر أمرين اثنين:
الأول: دراسة وتحليل الواقع القائم، وتحديد معالم وبؤر أزماته وأمراضه الحقيقية؛ الفكرية والتاريخية والعملية التي لا يزال يعاني منها، وتشكّل بمجملها تحديات وجودية بالنسبة له.
الثاني: تبيان وإظهار وسائل وأدوات وسبل العلاج من تلك الأمراض والأزمات على مستوى الدعوة الصريحة والحاسمة للانخراط المجتمعي الميداني في مناخات ومفاعيل مشروع النهضة التاريخي العربي التنويري القائم على الديمقراطية والتعددية السياسية والثقافية والتزام قيم الحرية والعدل والمساواة.
إن طريق هذه الرؤية الإصلاحية المطلوب من المثقف النقدي الالتزام بها عملياً، والعمل على تغيير مجتمعه على ضوئها، ليس مفروشاً بالورود، بل تتخلله عقبات وجدران ثقافية وتاريخية ومعاناة تظهر من خلال تحديين اثنين:
التحدي الأول: عدم وجود حاضنة ثقافية وفكرية مجتمعية واسعة تحمل بذور وأفكار الإصلاح والتغيير والمعاصرة والمستقبلية حتى الآن داخل تربة مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي تقوم على الرؤية الدينية التقليدية، وتسمع وتطيع رجل الدين أكثر من سماعها وتقبلها لأفكار المثقفين النقديين المعاصرين، حيث أنه ورغم كل ما قيل ويقال عن حدوث تطور في حالة الوعي التاريخي للمجتمعات العربية، لا زالت عيون وأفئدة وعقول النسبة الأكبر من مجتمعاتنا متجهة نحو الماضي الإسلامي الزاهي، ولا زالت عقولنا العربية دائرة في فلك النصوص والمرويات والتراثيات الدينية، ومأخوذة بقصص وروايات وتواريخ وحوادث المجد التاريخي العربي والإسلامي التليد.
التحدي الثاني: هيمنة مناخات وأجواء القمع والاستبداد السياسي على الواقع العربي، مما منع ويمنع تلك الفواعل الثقافية المجتمعية العربية التاريخية من ممارسة دورها الثقافي التوعوي النقدي الذي خلق (ويخلق) لها باستمرار مشاكل وتحديات، وجعلها ترتبك في حل تلك الأزمات التي تورطت بها، وهذا ما أثر سلباً على عملها وفاعليتها، وجعلها عاجزة ومشلولة وغير قادرة على البدء بمعركة الإصلاح بعد سياسة التحطيم القسري المنهجي الذي تعرضت لها نخبتها من قبل هؤلاء الذين عملوا على تكثير وزيادة الناس من جهة، وإفقارهم وتهميشهم وفق سياسة منهجية مدروسة من جهة ثانية، أي أنهم جعلوا المجتمع الذي يسيطرون عليه غارقاً في أزماته ومشاكله وتحديات وجوده من تأمين لقمة العيش من خبز ومسكن ومعيشة وغيرها.. وهذا ما جعل المثقف غير قادر على التأثير في مجتمعه، بل أخذ ركناً له في زوايا المجتمع، وعاش حالة شبه كمون وانقطاع عنه رغم ما أنتجه من نصوص نقدية وأفكار نيرة بقيت مخزنة في بطون الكتب، ولم تتحول إلى وعي تاريخي جماهيري ملموس.
ينشر بترتيب مع مشروع “منبر الحرية”
محمود