“تشيّع” الديموقراطيين..و”تسنّن” الجمهوريين/ مازن عزي
الشقاق الداخلي الأميركي، بات اليوم، عنواناً عريضاً، يؤثر على النظام الدولي. فالجمهوريون، بدأوا سحب ملف العلاقات الخارجية من يد الرئيس الديموقراطي باراك أوباما، بعدما كبلوا يديه طيلة ولايته الثانية في القضايا الداخلية. لكن أوباما، ليس ديموقراطياً فحسب، هو أيضاً رئيس دولة مهيمنة عظمى تعاني تراجع نفوذها عالمياً.
وإذا كان الصراع المتفجر في الشرق الأوسط قد أخذ شكله الراهن، كحرب بين السنّة والشيعة، فقد امتد الصدع إلى الداخل الأميركي؛ حين أهمل الديموقراطيون تظلمات حلفائهم السنّة، وسعوا بشكل محموم إلى عقد اتفاق مع إيران الشيعية. في المقابل استخدم الجمهوريون ميل الديموقراطيين إلى “الشيعيّة السياسية” منطلَقاً لنقد سياسة أوباما وطاقمه.
الإدارة الديموقراطية، رفضت، على مدى أربع سنوات، التدخل لصالح انتفاضة “السنّة” في سوريا ضد “العلوية السياسية” الحاكمة، وتحالفت مع عراق نوري المالكي الذي همّش السنّة، قبل أن تبحث عن بديل “شيعي” ألطف منه، في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية. كما أن التحالف الدولي ضد داعش، لا يرى سوى جرائم المتطرفين السنّة، ويتجاهل نظيرتها الشيعية، علماً أن قطع الرؤوس ليس ماركة مسجلة لداعش، في ظل مزاحمة مليشيات “الحشد الشعبي” العراقية الموالية لإيران.
في حين أن المعارضة الجمهورية، درجت على التصعيد ضد نظام بشار الأسد، والدعوة إلى تسليح المعارضة السورية المعتدلة، ورفض توقيع اتفاق نووي مع إيران. كما تفهمت، على ألسنة زعمائها، احتياجات تركيا والخليج العربي.
وإذا كان الفالق السني-الشيعي قد استخدم، حزبياً، لزيادة تباعد رأس الإدارة الأميركية التنفيذي، عن جسدها التشريعي، فإن خطبة نتنياهو أمام الكونغرس، أخرجت للعلن، التوتر الأميركي، وأظهرت نخبة الدولة العظمى السياسية، منقسمة على ذاتها.
فيل في الكونغرس
قبل يومين، أرسل 47 سيناتوراً جمهورياً رسالة إلى القيادة الإيرانية، هددوا فيها بانتهاء صلاحية أي اتفاق نووي معها، مع نهاية ولاية أوباما. وجاء في الرسالة: “سنعتبر أي اتفاق يتصل ببرنامجكم للأسلحة النووية، ولا يقره الكونغرس، ليس سوى اتفاق تنفيذي بين الرئيس أوباما وآية الله خامنئي”، وأن الرئيس المقبل يستطيع “إلغاء هذا الاتفاق التنفيذي بجرّة قلم، وبوسع الكونغرس مستقبلاً تعديل بنود أي اتفاق في أي وقت”.
وقال البيت الأبيض إن الرسالة جهد حزبي لتقويض السياسة الخارجية لأوباما من جانب مشرعين يعارضون التوصل لاتفاق، وإن “الجمهوريين في الكونغرس مستعدون للاندفاع إلى النهج العسكري قبل اعطاء النهج الدبلوماسي فرصة لينجح”.
بدوره، قال أوباما: “من المفارقات أن يشكل بعض أعضاء الكونغرس جبهة مشتركة مع إيرانيين يؤيدون اعتماد نهج متشدد”. في حين اعتبر نائبه جو بايدن أن الرسالة “مضلّلة وخاطئة بمقدار ما هي خطرة”، وأنها أعدّت “خصيصاً لتقويض رئيس يمارس مهماته في منتصف مفاوضات دولية حساسة”، وبايدن أكد: “لم أشهد على مدى 36 سنة أمضيتها في الكونغرس مبادرة مماثلة، عبر توجيه رسالة إلى قائد أجنبي لتحذيره من أن الرئيس الأميركي لا يملك سلطة إبرام اتفاق”.
ونشرت صحيفة “دايلي نيوز”، في صفحتها الأولى، صور زعيم الغالبية الجمهورية في مجلس الشيوخ والمرشحين الجمهوريين المحتملين للرئاسة، مرفقة بعبارة “خونة”. وكتبت الصحيفة في افتتاحيتها أن “تخطي النواب الرئيس أوباما ومخاطبة إيران عبر التلويح بتحجيم سلطاته واعتراض أي اتفاق، أمر مهين للولايات المتحدة، وانتهاك لمبدأ فصل السلطات”.
وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قد ألقى كلمته في الكونغرس الأميركي، “الجسد التشريعي الأكثر أهمية عالمياً”، بناءً على دعوة من زعيم الغالبية الجمهورية في المجلس، رغم اعتراض البيت الأبيض على الدعوة. النار المفتوحة بين أوباما ونتنياهو، لم تكُن سوى تصعيد للصراع الداخلي الذي تعيشه النخبة السياسية الأميركية، وانتقال للأزمة الداخلية من كواليس الكونغرس، إلى جلسة علنية قاطعها 50 عضواً ديموقراطياً، فاكتظت القاعة بمناهضي أوباما.
مضغ نتنياهو كلماته بهدوء، راصداً حركات جسده، في خطبة أعدّ لها مطولاً، وأرادها أن تكون مساهمة في انهاء الطور “الأوبامي” في السياسة الأميركية. قاطعه حلفاؤه الجمهوريون عشرات المرات، مصفقين إعجاباً، بـ”ليكودي” جاء مستعيناً بنصوص توراتية، وهو يلقن الإدراة الأميركية، درساً في التاريخ والسياسة والمصالح.
إيران “الإمبراطورية”
نتنياهو قال أمام الكونغرس: “إذا هددت إيران بترك طاولة المفاوضات، وهذا أمر شائع في البازار الفارسي، فتَحَدَّوا زعمهم الخداع، حينها سيعودون، لأنهم بحاجة الى الاتفاق أكثر منكم”. وقال إن “إيران إذا أرادت معاملتها كأمّة طبيعية، فعليها أن تتصرف كأمّة طبيعية”، وإذا غيرت سلوكها، وأوقفت عدوانها على جيرانها، وتوقفت عن دعم المنظمات الإرهابية في العالم، حينها يمكن رفع العقوبات عنها”.
قد يبدو حديث نتنياهو مستهجناً، خاصة أن بلاده تعتاش من حروبها ضد الفلسطينيين، أصحاب الأرض والحق. لكن الدولة العبرية باتت تستشعر الخطر من بروز إيران كقوة إقليمية منافسة، ذات شهية مفتوحة للتوسع، وفي حوزتها تقنية نووية. المخاوف الإسرائيلية تنامت في ظل انسحاب أميركا من ملفات المنطقة الشائكة، لا بل تسليمها العراق إلى إيران، من دون مقابل.
ومع المخاوف الإسرائيلية، تتلاقى المخاوف التركية والخليجية، فإيران باتت تهدد باقفال مضيق هرمز وباب المندب. ووجودها العسكري، من باب “وأد الفتن”، أشعل النيران في كامل المشرق العربي المتهاوي.
شهية إيران الإمبراطورية، بدت واضحة في كلام مستشار الرئيس الإيراني للشؤون الدينية والأقليات علي يونسي، الذي قال خلال منتدى” الهوية الإيرانية” في طهران، في 8 آذار/مارس، إن “جغرافية إيران والعراق غير قابلة للتجزئة وثقافتنا غير قابلة للتفكيك، لذا علينا أن نقاتل معاً أو نتحدّ”. وأوضح يونسي، أن “إيران أصبحت إمبراطورية كما كانت سابقاً وعاصمتها بغداد، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا اليوم كما كانت عبر التاريخ”. وتابع يونسي قائلاً: “العراق ليس جزءاً من نفوذنا الثقافي فحسب، بل من هويتنا.. وهو عاصمتنا اليوم”. وأشار يونسي إلى أن طهران تنوي تأسيس حلف اتحادي في المنطقة، وأن الجمهورية الإسلامية تدافع بالنيابة عن الإقليم ضد “الخطر الوهابي والعثماني”.
كما أن أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، قال إن إيران منعت سقوط بغداد ودمشق وأربيل في أيدي متطرفي “داعش”، وإن إيران باتت الآن على ضفاف المتوسط وباب المندب. تصريحات شمخاني تزامنت مع زيارة رئيس أركان الجيوش الأميركية، الجنرال مارتن ديمبسي، إلى بغداد.
كما أن قائد “فيلق القدس” الجنرال قاسم سليماني، بات يدير المعارك شخصياً في العراق وسوريا. فتارة نجده يدخل تكريت منتصراً، وأخرى يقترب فيها من حوران السورية.
نزعة إيران “الإمبريالية” لاحتلال أراضٍ مجاورة، وتوسيع نفوذها، قد تكون منقوصة على صعيدها الإقتصادي. فالبلاد منكوبة بالعقوبات، وتعتمد بشكل كبير جداً على تصدير المشتقات النفطية والنفط الخام، وتعاني من تقادم هياكلها السياسية، والحداثة لم ترَ النور بعد في طهران.
لكن عاملَين أساسيَين يدعمان نزوع إيران الإمبراطوري: المدّ القومي الشوفيني الذي تعيشه إيران الفارسية، والمحمول على دعوة تبشيرية “شيعية”، تمكنت من تحويل الأقليات الشيعية في المنطقة العربية إلى أذرع مسلحة للثورة الخمينية. إضافة إلى المجمع الصناعي العسكري الإيراني، الذي يقف خلفه “الحرس الثوري”، وبات رقماً صعباً في الحسابات الإيرانية. فإيران المنهكة من العقوبات، والتي تجد صعوبة حتى في بيع نفطها وغازها، باتت تجد في صناعتها الحربية مخرجاً جدياً لعزلتها الإقتصادية. وفي بقاع الشرق الأوسط المشتعلة، تجد إيران سوقاً رابحة لمنتجاتها العسكرية.
تزاوج النزعة الشوفينية القومية والإيديولوجية الدينية، مع الذراع العسكرية، جعل من طموحات إيران الإمبراطورية، أمراً قاب قوسين أو أدنى من التحقق. فقوات الحرس الثوري، تمتد من بغداد إلى صنعاء، وتجربة “حزب الله” اللبناني صارت قابلة للاستنساخ في الشرق الأوسط كله.
ديمقراطيون.. مع الأنظمة ضد الشعوب
يُدرج ريتشارد نيد ليبو، في كتابه “لماذا تتحارب الأمم؟”، عدداً من الفرضيات حول الحرب. أهمها أن أشد الدول عدوانية هي القوى الصاعدة التي تسعى للاعتراف بها كقوى عظمى، والقوى العظمى المسيطرة التي تسعى إلى الهيمنة.
لكن القوى المهيمنة المتراجعة، التي قدمت التزامات متراكمة، كالولايات المتحدة، قد تنتهي إلى تجاوز قدراتها. فالتوسع الإمبريالي يخلق تحديات للدول المهيمنة، ويمنح فرصاً للدول الصاعدة ضمن النظام الدولي. وعندما تتحارب الدول المهيمنة والقوى الصاعدة، فإنها تفعل ذلك للدفاع عن النظام الدولي أو تعديله لمصلحتها، بحيث تقوم الحرب على نحو فعّال بحل تناقضات المصالح الناجمة عن انتقال السلطة.
وإذا كانت الحروب تنشب، بحسب نظرية “انتقال السلطة”، عندما يتلاقى صعود دولة إقليمية ساخطة مع تراجع نفوذ دولة عظمى؛ فإن أخطرها تلك التي تدور رحاها بين قوى مهيمنة تفرض خياراتها على الأطراف الفاعلة الأخرى، وبين قوى صاعدة غير راضية تشن الحرب لفرض أنظمة أكثر ملاءمة لها.
ولإن الدول القوية تُفضل الحرب، فالقوى الكبرى التي تعاني الضعف والتراجع، غالباً ما تعتمد على الجهود الديبلوماسية للحفاظ على نفسها ومصالحها. اتضح ذلك حين أدارت الإدارة الأميركية “الديموقراطية” ظهرها لثورة الشعب السوري. وأوباما الرئيس، لم يتدخل إلا لتفكيك ترسانة النظام الكيماوية بعد قصفه الغوطة الشرقية في آب/أغسطس 2013، متجاهلاً كل النصائح التي وجّهها له مستشاروه بدعم الثوار السوريين. بل إن مسؤولي الملف السوري في الإدارة الأميركية، تخلوا عن وظائفهم تباعاً، حين واجهوا قلة إكتراث محيرة إزاء اقتراحاتهم.
أوباما قام بالخطوة ذاتها، حين تجاهل دعم احتجاجات الثورة الخضراء في إيران العام 2009، مفضلاً عدم تعكير الأجواء، والبحث عن اتفاق نووي مع نظام الملالي. يبدو أوباما في هذا السياق، زعيم لدولة مهيمنة منهكة، تعاني ركوداً اقتصادياً، وتتفادى عدوان إيران الصاعد ضد جيرانها، وتميل إلى تهدئتها عن طريق الاعتراف بها كقوة عظمى، إذا ما أنجز اتفاق نووي معها.
المدن