شهادات شبابية من الميادين في “بدايات”: هل تجدّد الثورات الأساليب الفنية الكتابية؟
محمد أبي سمرا
بعد ما يزيد على سنة على بداية الثورات العربية، تتصدر مسألتان أساسيتان مجال التفكير في ميادين مختلفة، سياسية، اقتصادية، وثقافية: أوضاع الأجيال الشابة ودورها ومآلها في مسار الثورات، وهيمنة تيارات الإسلام السياسي على المجتمعات والمؤسسات السياسية في دول ما بعد الثورات.
العدد الأول من مجلة “بدايات” – “فصلية ثقافية فكرية”، صدر في بيروت لشتاء العام 2012 وربيعه – حمل عنواناً رئيسياً أو محورياً، هو “الثورات بشبابها”، وضم عدداً من الشهادات الكتابية الجزئية عن الثورات، ودراسة عن “خطاب العولمة وتربية الشباب في العالم العربي”.
في مقابل مأثرة التغطيات التلفزيونية الآنية، والأخرى الصحافية الإخبارية للثورات وتناقل وقائعها ومجرياتها ومناقشتها عبر المدونات الالكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، أخبار وأشرطة مصورة بعدسات الهواتف المحمولة، تمنح الشهادات الكتابية الشخصية الحوادث والوقائع المروية، قوة وعمقاً مستمرين يتجاوزان اللحظات الآنية التي يطويها الزمن سريعاً، ويحفزان مخيلة القارئ ومداركه وتفكيره على نحوٍ بطيء. هذا يكسبُ ما يُروى ويُوصف كتابياً، أثراً وأبعاداً وحساسية لا توفرها الوسائل الأخرى. فالكتابة، تستطيع تكثيف زمنها وتسريعه، أو تقطيعه وتبطيئه، واستدخاله في سياقات مركبة ومتقاطعة، واستدعاء أبعاده المتصلة به، وتترك مجالاً فسيحاً للتداعيات واعمال تيارات غير مدركة من الوعي والحس والذاكرة. هذا ما تظهره شهادة الكاتب والشاعر المصري القاهري، محمد خير، في عنوان “هواء بلا ديكتاتور”، حين يكتب في مستهل شهادته: “أرتدي ملابسي وأنا أنظر الى العلم القماشي على الحائط وقد بدأت تكسوه طبقة خفيفة من الغبار. على المكتب كمامة الغاز السوداء بالفوهة الاسطوانية تشبه وجه حيوان مفترس. أفكر أنه بعد عام من الثورة أصبح الذهاب الى ميدان التحرير مخيفاً أكثر بكثير”. في سيارة التاكسي، إذ طالعته الشوارع المقفلة، رأى أن “الحواجز الحجرية الجديدة في قلب القاهرة أغرب بكثير من ذهاب مبارك”، فتذكر صورة لـ”بيروت والحواجز الأمنية المتعددة والمتقاطعة”. أما “قبل أيام (فقد) تسللتُ على أقدامي من خلف مبنى (وزارة) الداخلية عبر شارعي الفلكي ومنصور (…) لا شيء سوى عساكر ومدرعات (…) تذكرت قصة قديمة كتبتُها عن مدينة يرتدي أهلها جميعاً في الليل الملابس العسكرية”. ثم صورة أخرى تعود الى مكان وأيام لاحقة: “أحدهم ألصق فوق الجدار الذي سدّ مدخل (شارع) القصر العيني، لافتة بيضاء كبيرة عليها كلمات (للشاعر الراحل) أمل دنقل: آه ما أقسى الجدار”. لذا فكر الشاهد – الكاتب “أن المجاز لم يلتصق بالواقع الى هذا الحد من قبل. كأن الكلمات كُتبت للجدار أو كأن الجدار ارتفع كي تُلصق الكلمات عليه”. لكن الانتقال في الزمن من المشاهد الآنية الحسية اللاهثة، الى قصيدة أمل دنقل المكتوبة قبل سنين كثيرة، يسترسل في العودة الى الزمن الفرعوني: “الحجارة المكعبة الضخمة الرمادية (على مدخل القصر العيني، الآن) كأنها جاءت من الأساطير رأساً، مكتفية بذاتها على طريقة الاهرامات (… التي) بينها فراغات تسمح باختلاس النظر”. من الزمن الفرعوني انتقال مفاجئ الى “صورة طفلة صغيرة على الانترنت، على ظهرها حقيبة المدرسة، تنحني وتنظر عبر الفتحة الصغيرة بين أحجار شارع محمد محمود”. هذه الصور المجتمعة من أزمنة متباعدة في شهادة محمد خير القاهرية، تذكر بما كتبه الشاعر اللبناني حسن عبدالله في عشايا حروب لبنان، في مطلع قصيدته “صيدا”: “حضروا في الأرض/ وجدوا امرأة تزني/ رجلاً ينفض عن خنجره الدم/ حفروا في الرض وجدوا فخاراً صلصالاً… لحناً جوفياً منسرباً من أعماق البحر/ خطأ وجدوا سيارة/ قصفت طائرة مركبة الفرعون/ حفروا في الأرض/ وجدوا رجلاً يحفر في الأرض”.
هذه الشهادة الكتابية تتجاوز مسألة “الثورات وشبابها” في إطارها السياسي – الاجتماعي، الى الحقل الثقافي – الفني، وأساليب الكتابة التي حفّزتها الثورات نفسها. هذا يعني أن الثورة ليست فعلاً سياسياً واجتماعياً فحسب، بل هي وعي وتحسّسٌ جديدان للعالم والوقائع، وعلى صعيد المخيلة الفنية الكتابية ايضاً، وصولاً الى المفاجئ وغير المتوقع، كما هي الثورة نفسها، على ما يكتب محمد خير في شهادته: “غير الممكن هو ما دفعنا للنزول (الى الشوارع)، ضد حسابات الورقة والقلم (…) شيء سحري لا نعرفه أو ربما تعويذة ما لا تتخلّق إلا عندما ننزل جميعاً ونصفع الأبواب وراءنا: إنزلواااا! النداء الأشهر عبر التويتر، كلما واجهت الثورة اعتداءً أو تحرشاً أو حتى شائعة”. الثورة، إذاً، وليدة عوامل كيميائية شديدة التركيب والغموض، كتلك التي تتداخل على نحو غامض في الكتابة الفنية في هذه الشهادة الجزئية الشخصية عن يوميات الثورة المصرية.
الشهادات الأخرى مختلفة الأساليب الكتابية ايضاً، من صنعاء “ساحة التغيير” كتب جمال جبران قصة “شاب من قبيلة يمنية جاء للأخذ بثأر إبن عم له سقط في الساحة نفسها، فنسي ثأره بعد أيام، إذ لم يجد من يثأر منه، فسكن في ساحة الثورة التي تحولت مدينة جديدة داخل مدينة صنعاء. وينقل جبران عن الشاب، طالب الثأر، قوله: “كنت أرى شباب القبائل أمثالي، شباب قبائل بينهم ثارات قديمة، وهم يتقدمون معاً بصدور عارية صوب زوايا (الساحة) التي ينهمر منها الرصاص، هاتفين: سلمية سلمية”. هذا الهتاف نفسه هو عنوان شهادة الصحافي والناشط السوري محمد دحنون الذي كتب سيرة جزئية لنجم الثورة السورية في داريا، غياث مطر، صاحب فكرة توزيع الورود وعبوات المياه على رجال الأمن والجيش، والذي “سيعتقل في 26 أيلول مع صديقه يحيى الشوربجي، ويعود بعد 3 ايام جثة هامدة الى اهله. جثة تنقصها حنجرة”، مثل مغني الثورة في حماة ابرهيم القاشوش. اما الروائية والناشطة اليمنية بشرى المقطري، فكتبت شهادة ملحمية عن “مسيرة الحياة” الملحمية المروعة، التي سار فيها ألوف المتظاهرين مسافة 256 كلم من مدينة تعز إلى صنعاء. “تعز التي خرجت من صيرورة العماء لتشق طريقها في ليل الحديد والنار (…) فتضمخت سماؤها بالدماء (…) وأُحرقت ساحتها وجرفت جثث ابنائها وسحلت في ميادين الحرية”. هذا ولـ”دوار اللؤلؤة” في البحرين حصته من الشهادات، بقلم المدون والباحث والصحافي علي أحمد الديري.
“إستشراق” شبابي
دراسة ميسون سكرية عن “خطاب العولمة والشباب في العالم العربي”، غزيرة المعطيات والمصادر، في تناولها نظرة المؤسسات والمنظمات الدولية والدراسات في الولايات المتحدة الاميركية، إلى مسألة الشباب في البلدان العربية. تلقي باللائمة على هذه النظرة ومنهجها وبرامجها، لأنها ترى انها تنطلق من “أجندات” غايتها “إعداد الشباب للعمل في منظومة الاقتصاد العالمي” بغية “خلق الشخصية النيوليبيرالية التي تتحمل مسؤولية فقرها وبطالتها”. كأن مشاكل الشباب العربي ومآزقه كلها وليدة هذه النظرة التي تصفها الباحثة بـ”الاستشراقية”. ذلك لأن النخبة الشبابية العربية المعولمة تشارك “الحكومات والمجموعات الدولية والولايات المتحدة المفاهيم”. الأمر الذي يحوّل شبان هذه النخبة مستشرقين محليين، يروّجون لرؤية نمطية للثقافة العربية (… متبنين) وجهة نظر النخب الرأسمالية العالمية”، من دون النظر الى “الفوارق والمظالم الاجتماعية البنيوية” في المجتمعات المحلية.
ما يفقد هذه الدراسة شيئاً من اهميتها، هو حصرها مشكلة الشباب كلها في هذه المسألة التي قد تكون جزءاً من المشكلة. كأن تقول مثلاً إن المأزق الاقتصادي الكبير في الدول العربية ينحصر في العولمة أو الاقتصاد النيوليبيراي، وأن مأزق الثقافة العربية وليد الفكر الاستشراقي. النظرة هذه تجديد لأخرى سابقة ترد “تخلف” المجتمعات العربية السياسي والاقتصادي الى “التجزئة” و”الاستعمار” و”نهب الثروات والموارد” المحلية. والحق ان هذه النظرة تبرز جلية في عدد لا باس به من مواد مجلة “بدايات” في عددها الأول، تماماً على خلاف الشهادات الكتابية التي نشرتها لشبان الثورات.